من «حلّل» شريط إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي أهداه «داعش» الى العالم، عمل في الوقت ذاته على حشر التقنيات الرقمية الى جانب وهم المخيّلة التي قد تنتج أحياناً نتيجة طوفان التقنيات، عندما لا يعود ممكناً التعويل عليها، أو استيعابها عن طريق المحاكاة العقلية الواقعية لها، كما يخبر علماء الاجتماع. أما وقد غصّت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الميديا العربية بتحليلات للشريط الدامي، قام بها مخرجون ومنتجو أفلام وثائقية، كما عرّفوا بأنفسهم في تذييل آرائهم وكتاباتهم، فإن الاكتفاء بالقول إن الجميع قد وقع في فخ «داعش» لم يعد كافياً. لنلاحظ أن شرارة التحليلات أطلقها صحافي أميركي مغمور سرعان ما تلقّفها هؤلاء من المنتجين والمخرجين، وأعملوا فيها تنقيباً وتشريحاً، الى درجة أن أعصاب وأفئدة وعقول شرائح واسعة الطيف في العالم العربي لم تعد تحتمل أقصى درجات العبث مع الجسد الإنساني، كما ظهرت في إحراق الطيار الكساسبة حياً في قفص غيّر في هذه الدقائق الـ22 من رمزيته في الأدب وعلم النفس والاجتماع، ولم يعد ممكناً التخفيض من درجات الرعب التي ظهرت على الوجوه حين أمكنها مشاهدته، أو مشاهدة بقاياه، أو نثار رماده. من توقّف عن المشاهدة، لم يضع سوى فرصة الاحتفاظ بهذه المشاهد المرعبة في ذاكرته الى الأبد، ومن ضغط على أزرار الريموت كونترول للقفز من هذه المحطة التي «تلتزم» بمهنية عرض «الإرهاب المسلم كما هو في الواقع»، فإنه احتفظ في اللاوعي بمحاولته الفردية الفرار من مصير مشابه، تفرضه أحياناً فرضيات التماثل والتماهي مع البطل الدرامي الذي يقبع في القفص. أمور كثيرة ستُقال من الآن فصاعداً عن أفلام «داعش». لم يكن ممكناً للدراما التلفزيونية العربية على مدى عقدين تقريباً، إقحام نفسها في المخيلة العالمية كما فعل فيلم الكساسبة. وما يقوم به المخرجون والمنتجون والرقميون العرب، لا يخرج عن حيّز المخيلة الجديدة التي أرادها «داعش»، سواء كان الفيلم مركباً أم لا، وقد وقع بعضهم كما أسلفنا في الفخ، ورفع من مقدّرات الفيلم المرعب، عن طريق «المديح» غير المفهوم لتقنيات «داعش» في تصوير الأفلام، الى درجة أنه يتجاوز هنا الحديث عن الدراما التلفزيونية نفسها الى «محنة» مقلقة في السينماتوغرافيا العربية، ويضعها في موقع شبهات وشكوك ليست في صالحها إطلاقاً. السينما العالمية (الأميركية خصوصاً)، تغصّ الى حدّ الاختناق بفنون من هذا النوع، ولا ينقص هذا العالم التغنّي بمركبات العنف والتوحّش، فهي بيئة حاضنة لكل ما سينزف ويحرق ويصلب على مر السنوات. وسواء كان الفيلم خدعة رقمية من بنات أفكار «داعش» أم لا، فإنه بدقائقه الـ22 هزّ العالم، ولهذا يمكن التوقّف عن التحليل والتنظير الى حين إطلاق فيلم بخدعة دموية جديدة لم تخطر ببال هؤلاء المحللين والتقنيين.