×
محافظة المنطقة الشرقية

عاصفة رملية تجتاح حفر الباطن والمراكز التابعة لها

صورة الخبر

كلاهما كان حُجة في ميدان التراث والمخطوطات، وكلاهما كانت له ندوة عامرة يرتادها أهل الفكر والأدب في مصر. فندوة زكي باشا (شيخ العروبة) كان لها طابعها الخاص، في دار العروبة بـ (جيزة الفسطاط). وهناك ندوة (شيخ المحققين) أحمد تيمور في دارته في الزمالك. وبين الرجلين فوارق كبيرة في الطبع والسلوك والعمل؛ فزكي باشا رجل يحب الشهرة والدَّوي، ويُرسل آراءه كالقنابل، على صفحات الجرائد، فيثير المعارك - كما يقول أنور الجندي في كتابه «الشرق في فجر اليقظة»، وهو قليل الصبر على الاعتكاف في مكتبته للبحث والمثابرة. أمّا أحمد تيمور باشا، فإنه على العكس، يقرأ في صمتٍ، ويُعَلَّق على هوامش المؤلفات، وهو لا يتصل كثيراً بالمجتمع، فهو يُفَضِّل العزلة من أجل نشدان المعرفة. وفي مجلة (المقتبس) رسم محمد كرد علي صورة قلمية للرجلين، فقال: «إنهما الأحمدان المصريان المعاصران، كان الأحمدان من أعز أصحابي، قضيتُ معهما منذ سنة 1901م إلى أن اختارهما مولاهما إلى جواره، أياماً وليالي؛ فتمازجت أرواحنا تمازُج الإخوان، وتصافينا تصافي الود. تيمور كان من عادته أن يتبسط في الحديث مع خاصته تبسطاً، لا يخرجه عن حدود الأدب والدعابة البريئة، والنكات، ثم ينقلب إلى البحث في الكتب: مطبوعها ومخطوطها، يخوض في كل ذلك من الجد بذوق وشوق، وتقدير وإنصاف، ويهتم كثيراً بأمر المسلمين والعرب والعربية». وعندما سكن الإمام محمد عبده في حي عين شمس، اتَّخذ أحمد تيمور داراً إلى جواره مدَّةً؛ فنقل إليها خزانة كتبه، لكن عندما انتقل الإمام محمد عبده إلى جِوار ربه، اسودَّتْ الدنيا في عينّيه، فانتقل تيمور إلى جهةٍ أخرى، وبادر بنقل خزانة كُتُبه إلى إحدى مزارعه في مدينة قويسنا. وبعد فترة، ابتنى تيمور دارةً جديدةً في الزمالك، فنقل إليها مخطوطاته النفيسة. ويذكر كرد علي أن تيموراً «كان يتصدَّق في السر؛ بأنْ يُجري مُشاهرات على مَن قعد بهم الدهرُ عن الاكتساب، ويفْضُلُ على بيوتٍ كثيرة من المَحاويج، ويُدِرُّ عليهم رواتبَ مُقرَّرةً، تأتيهم في بيوتهم رأسَ كل شهر، ويأبى عليه شرفه ودِينه ومكارمه إذاعة ما تجود به نفسه؛ لذلك أخذ العهودَ على من كان يُعطيهم ما يُقَوِّم أَوَدَهم، أنْ لا يذكروا أنهم يُرزَقون منه، ولمّا باحَ أحدهم بالسر؛ لضغطٍ شديدٍ وقع عليه، شقَّ ذلك عليه؛ فقطع المُشاهرات والإدرارات، مُتظاهِراً بالضائقة». أخلاق تيمور وكرمه! ويضيف كُرد علي قائلاً عن كرم تيمور باشا: «وعاد بعد مدةٍ، يُرسل بواسطة المصرف حوالاتٍ ماليةً بأسمائهم، وهم لا يعرفون مصدرها، بل إن المصرفَ نفسه لا يعرف حقيقةَ اسم المُرسِل؛ ولذلك صحَّ لنا أن نقول: إنه كان لا يُنفِق ماله على غير العلم وعمل الخير، وكان يعالج في كتمان صدقاته، حتى لا تدري شماله بما فعلت يمينه! وكانت أطيانه تَزيد، وريعها ينمو، ونعمته تفشو مع هذا البذل الكثير! وعندي من رسائله أكثر من مئةٍ وأربعين رسالةً، هي في خِزانتي أجملُ ذُخر وذكرى». وقد استغرق تيمور في التعليق على مخطوطاته جانباً عظيماً من وقته، وإن غرامه بالكتب كان يتقاضاه صرف الساعات الطويلة أيضاً؛ وإذا علمنا ذلك؛ لأكبرنا ما أتى به خصوصاً إذا علمنا أنه كان يتولى كل أمر بنفسه، حتى كتابة الفهارس. تساهُل زكي باشا ويقول كرد علي عن أحمد زكي باشا: «إنه كان يتجوَّز في ما لا يتجوَّزُ فيه أرباب التقوى! فكأنه تخلَّقَ بأخلاق من عاصرهم وعاشرهم، وما رأى حرجاً في ذلك! ويضطره العبث واللعب إلى الإسراف؛ ولذلك أنفق كل ما دخلَ يده من مالِ قرينته أولاً، ثمَّ من مال شقيقه، غير حاسب للأيام حساباً، وربما أفرط في ذلك، ولعل إفراطه كونه لم يعقب ولداً! وكانت له أشياءُ يستخرجها في مخطوطاته، أو من جُزازاته، ومُفكراته، ويُتحِفُ بها العالم العربي الحين من بعد الآخر، يقصد بها التعليم والإدهاش». وطريقة زكي باشا في كتبه وترجمته ونشره أقرب إلى أن تكون غربيةً، منها إلى أن تكون عربيةً. والعربية في آثار تيمور باشا محسوسة أكثر من الإفرنجية. والإفرنجية في كتابات زكي شائعة أكثر من العربية، والروح الديني يتجلى في تيمور، والروح المدني غالب على زكي؛ فكأن هذا مستشرق شرقي، وذاك شرقي قبل كل شيء، شرقي بتقاليده وهدايته، وتربيته وثقافته. ولقد جال تيمور في دائرة ما أحب أن يخرج عنها طوال عمره، وكذلك كان زكي، إلا أن الدواعي والبواعث كانت تضطر هذا إلى تجاوز الحد الذي رسمه لنفسه، فلقد خاض زكي في المجتمع، وتغلغل في تضاعيفه، فقَبِله بما فيه من حسناتٍ وسيئاتٍ أكثر من صِنوه تيمور. وهنا تظهر أرستقراطية تيمور باشا، وديموقراطية زكي باشا؛ فقد كانت حياة زكي مرحةً يتمتع بمباهجها، ومناعمها على ما يشتهي، وكان يتعجل النعيم لا يرجئه، وكانت حياة تيمور عابسةً، فيها شيء من الانقباض، كما يقول كُرد علي. وكلاهما كان صادقاً في مشربه، صادقاً في سيرته، غَير مُدَلِّس، ولا مُوالس، ولا مُتزمتٍ، ولا مُتخافِتٍ! وإن عدد من أخذ عنهم تيمور من الشيوخ كان أكثر من عدد من أخذ عنهم زكي، وكانوا في ذاتهم أشد تديناً وغيرةً على الدين؛ فجاء تيمور عالماً إسلامياً قبل كل شيء، يُحب الانتفاع بما أنتج أهل الغرب، وجاء زكي عالماً شرقياً، يشبه علماء الغرب إلى حد بعيد. ووصف خير الدين الزركلي تيمور باشا في مذكراته، لا سيما أنه كان من رواد صالونه الشهير، فقال: «إنه وقور، طويل الصمت، فيه تواضع ولين... وما زلتُ أذكر إلقاءه بين يدي مذكراته يوم بدا لي أن أبحث في تراجم المتأخرين، وقد عاصر بعضهم، وبادلهم الترجمة؛ فكانت لي منها فوائد كثيرة، وفي البُعَداءِ عن مصر مَن يعرف فضلَ تيمور أكثر مما يعرف أهلها».