أثبتت الأحداث أن الأزمات الحقيقية التي تعيشها اليمن - مجتمعاً ودولة- أساسها أزمة الصدق والضمائر الفاسدة لدى المتسلطين على مقدرات الوطن والشعب ومن بعض المكونات الحزبية والسياسية والقوى الاجتماعية المتنفذة في المجتمع التي تفتقد إلى رقابة الضمير الوطني والأخلاقي، ويحلو لها الاستمرار في اللهو بقضايا الوطن المصيرية دون إدراك لخطورة مآلات ذلك العبث على مستقبل الوطن ووحدته وتماسك نسيجه الاجتماعي وعلى معيشة الناس الذين تتفاقم معاناتهم وأوجاعهم جراء ذلك العبث، ولاشك أن ذلك ناتج عن انفصال الصلة الحميمية بين القيم والأخلاقيات والمثل النبيلة، وبين قناعات تلك القوى والمكونات في ممارساتها للعمل الوطني والسياسي، وفي علاقاتها الداخلية مع بعضها البعض ومع الآخرين، وبالتأكيد فإن عملية إصلاح الضمائر الفاسدة وإحياء رقابتها على التفكير والممارسة، لايمكن أن تتم إلاّ بمراجعة ذاتية وإقتناع تام بضرورة الفهم الحقيقي للقيم السامية والمثل النبيلة والأخلاقيات الفاضلة، وجعلها واقعاً معاشاً في حياة تلك القوى والمكونات السياسية والمجتمعية أولاً.. وفي تعاملها مع القضايا الوطنية وما يرتبط بها من جوانب الحرص على وحدة اليمن وأمنها واستقرارها، وفي تحمل مسؤوليتها لإخراج اليمن من أزماته المتلاحقة بأقل قدر من الخسائر وبعيداً عن حب الذات ونزعات الاستحواذ والإقصاء، وكذلك النضال من أجل قيام الدولة المدنية الحديثة.. دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية القائمة على أسس الحكم الرشيد والعدالة والحرية والديمقراطية والشراكة الوطنية الحقيقية، فالكثير يتغنون بمفردات الحق والحرية والعدالة والشرف والنزاهة والإخلاص، ويلوكون تلك العبارات في ألسنتهم وأحاديثهم، لكنهم كل يوم يقتلونها بأفعالهم وممارساتهم المختلفة، وكأنهم لم يتمثلوا معانيها الحقيقية في أذهانهم، أو أنها تخص أناساً آخرين غيرهم؛ ذلك الآخر الذي عليه أن يطبق تلك القيم والمُثل، أما هم فيكفي أن يتغنوا بتلك المعاني التي يستيعدونها من ذاكرتهم ويتناسونها في حقيقة ممارساتهم ليرتكبوا بعد ذلك الكثير من الجرائم والموبقات في حق الوطن تحت قناع آخر وداخل ثوب فضفاض من الإدعاء والزيف والتناقض، وربما أن لذلك أسباباً موضوعية مسكونة في قناعاتهم الذاتية المليئة بالوهم، أهمها الانفصام الحاد في الشخصية، والحرص على أن تكون مصالحهم الذاتية مقدمة على مصالح الوطن التي تجعلهم يتنكرون لكل المبادئ والقيم والمثل التي يتظاهرون بإيمانهم بها وإيهام الآخرين بحرصهم على التمسك بها في كل ممارساتهم، بينما هم يبيعون ويشترون بها كل يوم، ويذبحونها على مسالخ الأهواء والعلاقات الكاذبة الهشة. إن القوى الوطنية الصادقة بمختلف شرائحها ومشاربها وانتماءاتها وأطيافها السياسية، وكل قوى الحداثة والتجديد معنية قبل غيرها بإيقاظ الضمير الوطني وترسيخ القيم والمثل النبيلة والسامية في الوجدان الجمعي، والعمل على جعلها سلوكاً ثابتاً وممارسة يومية، باعتبار ذلك حقاً للوطن على كل أبنائه الصادقين، وأن تكرس الدعوات في أن تكون الأخلاقيات الأصيلة، والقيم الإنسانية المتوارثة والمثل النبيلة حية ونابضة في وجدان عامة الناس الذين لم يتلطخوا بأوساخ السياسة وعفوناتها الراكدة التي قضت على كل مشاعر الصدق والإخلاص والحرص على سلامة الوطن والحفاظ عليه من مآلات التشظي والتمزق، وبالذات لدى أولئك الذين احترفوا مهنة المتاجرة بالقضايا الوطنية، واستمرأوا أساليب الإبتزاز السياسي على حساب مصالح الوطن وأمنه واستقراره ووحدته، وأسهموا في انهيار ما تبقى من بنيان الدولة ومقوماتها، والخروج عن الثوابت الوطنية.