تحدثت في المقال السابق عن بناء مشروع للتربية الوطنية، وانتشال الفكر الاجتماعي من الانتماء النفسي لأي شكل من الممارسات البعيدة فكريا أو سلوكيا عن الإحساس بالانتماء الوطني، بمقابل إيجاد مشروع إنساني يبني المواطن الصالح، ويعيد صياغة الفكر بالتركيز على مبدأ موجود لدى الفرد وهو مبدأ البحث عن الهوية. من الملاحظ أن تخلف السلوك دائما في تعاملاتنا يُناط بالهوية، وحينما يتهرب الفرد من أخطائه فهو يعلقها على ذلك المبرر، وكأنه يشير إلى أن البيئة والهوية تجعلانه سيئا، وأن أي سلوك متحضر يضعه في قائمة المتخلفين عن السائد، فهذا المنحى يشكل ثغرة قد يمرر من خلالها أي فكرة تجعل الفرد يبحث فيها عن الانتماء ويحقق بها ذاته بشكل بعيد عن التصاقه بهويته، فهو ينفصل عنها ويطمح إلى إيجاد قيمة ومعنى لوجوده، ولكن على طريقته وبدافع حاجاته، وفي الوقت نفسه يريد أن يعبر عن نفسه انطلاقا من الذاتية، سواء كان سلبيا ذلك الاتجاه أم إيجابيا. استيعاب هذه الحلقة المفقودة هو السبيل على التوجيه نحو الولاء الوطني وبناء الهوية الذي يبدأ من حاجة الإنسان إلى حقوقه وتحقيق ذاته كمواطن، وبالتالي ينظر إلى نفسه وما يترتب عليها من الواجبات، فإذا كان هناك توازن بين الحقوق والواجبات فسيكون هناك تعميق حقيقي لمفهوم الانتماء الوطني والهوية الوطنية، وعلى سبيل المثال فحينما يعتني الواحد منا بأبنائه ويمنحهم كفاياتهم من الرعاية والفهم والاحتياجات والشعور بالفاعلية وأهمية الدور، فالابن لن يصيغ أفكاره ويبحث عما يلبي احتياجاته خارج إطار أسرته، وسيشعر بقدر من الرضا الذي يجعله يشعر بقيمة الانتماء إلى ذلك المكان. الهوية تشكل أزمة، والتحدي الحقيقي يأتي من القدرة على استيعابها، وبعد ذلك يأتي العمل على تعزيز هذا المفهوم من نواح أساسية تبدأ من التعليم وإصلاح المناهج، والعمل على برامج ومحاضرات إرشادية في المدارس والجامعات، كالتنسيق مع المتخصصين في هذا التوجيه لتجميع الطلبة والتقائهم بمختص على هامش اليوم الدراسي، كذلك دور الإعلام وتوجيه برامجه بالأنماط المحببة لدى الشباب والتي تستميل هواياتهم وتخاطب عقولهم وليست عواطفهم، ويمكن أن يبدأ تنفيذ هذا المشروع بدراسته تحت إشراف المختصين في مركز الحوار الوطني، وتمكين أدواته من العمل على هذه القضية بالطرق التي تقوي الولاء للوطن، وما عدا ذلك فإن الطريق للتحديث سيكون عسيرا.