يكفي مخزون الأسلحة النووية على الأرض لتدمير الحياة فوق هذا الكوكب عشرات المرات،حتى تصبح استعادة الحياة مجدداً فوق الأرض، ضرباً من ضروب الخيال، ولا يفوق القدرة التدميرية للأسلحة النووية، سوى قدرة بعض الأفكار على تدمير الذات، وتدمير الآخر.. "داعش" و"القاعدة" و"جبهة النصرة" و" أنصار بيت المقدس" و" أكناف بيت المقدس" وأغلب الجماعات التي التحفت بالدين أو تغطت بالقدس، باتت أخطر على الذات وعلى الدين وعلى القدس وعلى صميم الوجود الاسلامي، العربي، الانساني، من جميع أسلحة الدمار الشامل، وعلى من لا يصدق ذلك أو من يعده ضرباً من ضروب المبالغة اللغوية، أن يشاهد فيلماً يصور عملية قتل الملازم أول طيار معاذ الكساسبة، حرقاً. مقطع إعدام الكساسبة حرقاً استغرق بضع ثوان ضمن فيلم الاعدام الذي يستغرق عرضه كاملا خمساً وعشرين دقيقة، فيما قدر خبراء زمن إعداد الفيلم للعرض بنحو شهر كامل ، وهى نفس الفترة الزمنية الفاصلة -تقريبا- بين موعد تنفيذ الإعدام حرقاً في الكساسبة في الثالث من يناير الماضي، وبين موعد عرض الفيلم ذاته في الثالث من فبراير الجاري. طول فترة الإعداد لفيلم إعدام الكساسبة، والأسلوب الذي وقع عليه اختيار تنظيم "داعش" لتنفيذ الاعدام حرقاً، وعملية استحضار كل فنون التصوير بعدد كبير من الكاميرات، جرت زراعتها بدقة في زوايا احاطت بقفص حديدي أعد ايضاً بعناية، ثم التصوير بتقنية 3D، وفنون الجرافيكس والعرض البطيء، والموسيقى المصاحبة، كل ذلك يحمل مؤشرات، ويقود بدوره الى نتائج، تستلزم بدورها مراجعات في العمق لكل ما حولنا، وكل ما فينا. أول هذه المؤشرات، أننا بصدد جماعة لا سقف للإجرام عندها، فمشهد احراق الكساسبة داخل قفص، يتفوق على مشهد الأسود تلتهم عبيداً أمام جمهور مهووس في العصر الروماني، وهى تتفوق بالطبع على عمليات حرق لليهود -وسواهم- في أفران الغاز، على يد النازيين ابان الحرب العالمية الثانية، غير أن أحداً لم يصور افلاماً للمحرقة ، ولم يسع لعرضها على جمهور بقصد الترويع.. نحن إذن بصدد محرقة، تستهدف مسلمين وغير مسلمين، ويجري تحضيرها تحت رايات سود ينسبها البعض الى الإسلام. ثاني تلك المؤشرات، أن الجهد والإمكانيات، التي أتيحت لفيلم المحرقة الاسلامية، لا يتاح الا لدولة، أو لتنظيم واسع الامكانيات، لديه مدد من دول وحكومات، ما زالت ترى فيما يفعله "داعش" خدمة لمصالحها، سواء بإضعاف خصومها، أو بتوفير ذرائع أخلاقية لاستهداف دولهم أو مصالحهم أو سياساتهم، وكلنا يعرف، كيف ولدت داعش وسط حاضنة من الالتباس والتشوش في الرؤى، لدى البعض اختلطت فيه الرغبة في مقاومة نظام قاتل في سوريا، بالرغبة في دعم خصوم هذا النظام، ما أنتج في النهاية هذا المسخ المشوه الدموي الذي لم يعد ممكنا ترشيد سلوكه او السيطرة على حركته، من قبل من وفروا له ظروف النشأة والتطور. ثالث تلك المؤشرات، أن التنظيم الإجرامي ذاته، ربما أصبح يرى نفسه، في غنى عمن وفروا له ظروف النشأة، وأنه بات خارجاً عن سيطرتهم، وأن ثمة شعوراً بالعظمة قد أصابه، بعدما تمكن في ايام من السيطرة على مناطق واسعة في العراق وسوريا، مستفيداً من روح طائفية أشاعها نظام نوري المالكي في العراق، ومن حالة يأس ضربت عشائر سنية في سوريا. أما النتائج التي تقودنا اليها جريمة إحراق انسان "حياً" داخل قفص حديدي، في الألفية الثالثة، فأولها: أن لدينا، ثقافات أنتجت الجريمة، تلك الثقافات هى الأولى بالحرق، ولدينا كتب صفراء تربى عليها "الدواعش" ومن لف لفهم، تلك الكتب الصفراء هى الأجدر بالحرق،فإحراق معاذ الكساسبة، بصمة "جاهلية" على جبين كل مسلم، بات محوها فرض عين على كل مسلم بحق. وثانيها: أن معاذ الكساسبة هو ابن كل واحد فينا، وأن من أحرقوه هم أعداء كل واحد فينا، وأن الثأر له والقصاص ممن أحرقوه بالنار مرة، وبالفكر المشوه للدين مرات، مسؤولية كل واحد فينا، وأن الثأر لم يعد فرض كفاية، وانما فرض عين على كل من يغار على دين الاسلام. وأن "داعش" ومن انتجوها، فكراً، ومن مولوها، ومن سلحوها، ومن تستروا عليها، كلهم أعداء للدين وللوطن وللإنسانية، وجب القصاص منهم. النيران التي التهمت الكساسبة، لفحتنا جميعاً، أحرقت قلوبنا، فضحت عجزنا، كشفت فقر أفكارنا، عرت عمق جهلنا، بينت فداحة مصيبتنا في ديننا، فلا خير فينا، إن لم يقتل كل منا " الارهابي" داخله" أولاً، لا خير فينا ان لم نقتلع جذور التطرف من حياتنا.. لا خير فينا ان لم نحرق بنار أكلت الكساسبة على الملأ كل كتب الفكر المجرم، لا خير فينا ان لم نقتلع "داعش" وأخواتها، وجماعتهم الأم " الاخوان المسلمين" مرة واحدة والى الأبد.. الى الأبد. مطلوب جهد مخلص، لكشف الروابط الفكرية والتنظيمية والثقافية والحركية بين جماعة الاخوان المسلمين" الحاضنة الحقيقية لفكر الدواعش" وبين تنظيمات داعش والقاعدة وأجناد بيت المقدس وعرضه على العالم.. اللحظة ملهمة، ومجازر داعش ومحارقها فرصة لا ينبغي تفويتها، لتوجيه ضربة مميتة وأخيرة للجماعة الحاضنة لفكر أنتج كل الدواعش.. دعونا ننقِّ شوكنا بأيدينا، قبل أن تمتد أيدي أعداء الاسلام للنيل منه والفتك به، فعملية إعدام معاذ الكساسبة "حرقاً" على الملأ وعبر الفضائيات والمواقع الإلكترونية، هى في الحقيقة، محاولة لاستدعاء كل عوامل ومقومات تدمير الاسلام وتقويض صورته، توطئة للقضاء عليه.. داعش أحدث أفكار الدمار الشامل، وجماعة "الإخوان" هى مختبر تحضير أفكار الدمار الشامل...لن يعرف المسلمون استقراراً وأمناً قبل أن يحرزوا انتصاراً حاسماً في حربهم ضد أفكار الدمار الشامل، ولن يعرف العالم سلاماً دون أن يستوعب حقيقة انه لا داعش ولا الاخوان يمثلون الإسلام. moneammostafa@gmail.com