قبل أن تدخل إلى عوالم هذا الديوان، عليك أن تتوقف عند ملمحين بارزين يستوقفانك أمامهما طويلا. الملمح الأول: هو الشاعر الذي أبدع، وهنا عليك أن تتوقف؛ تقديرا وإعجابا، فنحن بعيدا عن الإدارة والإمارة أمام شاعر له اسمه الزاخر بالإبداع وعطاؤه الثري في الساحة الشعرية، ليس منذ ديوانه الشعري الشعبي الأول «قصائد نبطية» الذي صدر عام ١٤٠٦ هجرية، والذي تضمن ما يقرب من١٠٠ قصيدة، ولا حتى أمام اختيار هذا الديوان ضمن ثمانية كتب عالمية باعت أكثر من ٥٠ ألف نسخة؛ ولكن أمام تاريخ مليء بالعطاء الفكري والإبداعي، الذي زخر بإنجازات إبداعية وفكرية منها: مؤسسة الفكر العربي المعروفة، وإنجازات أخرى عديدة تحتاج إلى وقفات طويلة منها إبداعاته الفنية. الفيصل الذي تأثر بالمتنبي وتوقف طويلا كما قال أمام خزانته الشعرية، كان من أوائل الشعراء الذين أقيمت لهم أمسيات شعرية في عواصم عربية وغربية، ومن الشعراء الذين يكتبون شعر التفعيلة بإجادة، ويمتلك القدرة على توظيف المفردات الشعرية بإتقان ودهشة تأخذك إلى عوالم رحبة من الخيال المبدع والمعاني العميقة والصور الفنية، التي تلمس بداخلك أحاسيس شتى، وتسمو بك إلى فضاءات مغايرة تشعر أمامها أنك كائن آخر اسمى وأجمل، وفي نفس الوقت لا تبدو منفصلا عن عالمك؛ لأن خيالك وعقلك معا في دوائر الدهشة الملتحمة بالواقع وليس في انفصال عنه، وتلك القدرة لا تتأتى لشعراء كثيرين زخرت بهم أروقة الشعر. تلك ربما تبدو إشارات لتاريخ طويل من الإبداع والعطاء يحتاج إلى مجلدات. الملمح الثاني: والذي يعد الرئيس هنا هو ديوانه الشعري الذي نتطرق إلى عوالمه الإبداعية سريعا والصادر مؤخرا. الديوان يأخذنا عنوانه إلى تأويلات كثيرة، فـوزن الكلام تورية مبدعة تقودنا إلى التفرد والإبداع والحكمة والبساطة المدهشة، التي تنطلق من حكينا اليومي والتي تلامس ما نقوله بالشعبي إلى من يخرجون عن سياقات الكلام اوزن كلامك، وأيضا تشير إلى القلة من الحكماء ممن يزنون كلامهم، فلا يطغى ولا ينقص، فوزن الكلام من الحكمة والقدرة، فما بالك إذا كان هذا الكلام مبدعا وزاخرا بالمعاني، هنا يكون الأمر مختلفا ومدهشا، خاصة إذا كان هذا الكلام المبدع منطلقا من ذات مبدع وملامسا الواقع بكل أبعاده ومكوناته من بشر ومواقف وانفعالات وتاريخ وفكر وعاطفة ومشاعر تتفاعل مع كل هذه المعاني والمفردات لتصوغها شعرا مبدعا. إن كل قصيدة في ديوان الأمير الشاعر خالد الفيصل تأخذك إلى عالم مغاير، عالم تعرفه وتلمسه، ولكنه هنا يدهشك ويحلق بك ويدفعك دون أن تدري لتتساءل لماذا؟ وربما تكون الإجابة صعبة رغم دهشتك ورغم معرفتك بمفردات الكلام، وهذا هو الإبداع. إن الشاعر الذي يعرف جيدا متلقيه، يتجه إليه في أولى قصائده مبجلا حضوره ومطالبا منه أن يشارك الشاعر إبداعه، وأن يسهم بفكره في رسم الصورة الشعرية المبدعة، فهو جزء منها، وعليه ألا يكون مجرد متلق عادي، بل يجب أن يكون المتلقي مبدعا باحثا منتشيا إلى درجة التغني بالكلمات، فليس هناك فارق بينه وبين الشاعر كمتلق فهما معا يتشاركان ويبحران في عوالم الإبداع وليس بينهما حاجز: ارسم لك بعض من صوره واترك لك ترسم باقيها ترنيمة شعري وشعوره أتمنى يوم تغنيها وابحث تلقى بين سطوره بعض مني ومنك فيها تعال أبحر بك في بحوره والموجه تركب عاليها ما بيني وبينك محظوره منك أولها ولَك تاليها بعد هذه الدعوة أو التوجه، نبحر إلى عوالم ما يقرب من الثمانين قصيدة أو يزيد قليلا، عوالم زاخره ثرية، وكلام موزون، وإبداع تدهشك بساطته وعمقه في آن.. الفيصل الشاعر يفتتح قصائده بقصيدة مهداة إلى رجل عظيم رحل عنا مؤخراً وأثقلنا بالحزن قدر ما أثقل المملكة والعالم بعطاءاته وإنجازاته. يا صاحب الرمعات أبيات موجزة مبدعة زاخرة بالمعاني توقفك حروفها وكلماتها طويلا؛ لتدرك عمق التعبير والمشاعر التي يكنها الشاعر لرجل عظيم منحّيا صلة القربى التي تقود إلى العاطفة، ومقدما صفات العظمة والعطاء المدهش الذي لا يوقفه في الحق لومة لائم: يا شيخ يا اللي بالشجاعه تفوه ما تاخده بالحق لومات لايم من شبته مشهور ما هو ب توه متبوع.. ما يتبع.. قوي الشكايم هنا تستطيع أن تقف طويلا أمام كلمات موزونة ثرية موحية زاخرة بالمعاني معبرة تملأ صفحات بالتفسير والشرح، فالكلمة الأولى في القصيدة والتي فيها سمة المخاطبة المندهشة والمدهشة والمجللة بالاحترام والإعجاب يا شيخ توقفنا أمامها، وعندما نقرأ ما بعدها نعود إليها؛ لندرك مغزاها ومعناها، فهي هنا ليست كلمة واصفة نتداولها يوميا، ولكنها مفردة مليئة بالمعاني والإجلال والتقدير لشخصية وصفات وعطاءات المخاطب، الذي هو بحجم ومكانة الملك الشجاع عبدالله بن عبدالعزيز «رحمه الله». والقصيدة التي تزخر بالصفات الكريمة والمعاني المبدعة التي تعدد بعض صفات المخاطب الجليل، يختتمها الشاعر بدعوة الملك الشجاع أن يضرب ليس بسيفه ولكن بعدله، فالعدل هنا قوة تفوق قوة السيف وكل أدوات الحرب: ما تبلغ الغايات من غير قوة اضرب بعدلك بيرق العز قايم يمكنك كمتلق أن تتوقف طويلا أمام هذه القصيدة؛ لتدرك سمو وهيبة وعظمة الملك، وهي رغم قصرها تزخر بزخم مفرداتها وثقل وزن كلماتها. من مفتتح الديوان إلى عالمه المبدع نبحر مع وصف الإبداع، وديرة الله الواسعة، التي يتوقف أمامها الشاعر متدبرا حال الدنيا التي يعيش البعض دقائقها وسنينها، ومتدبرا في الوقت الذي يرحل عنها البعض دون أن يدري، هنا تتجلى حكمة الشاعر الذي يأخذنا بكلامه الموزون الثري إلى البعض في قصيدته لولا قائلا: لولا الوظائف ما عرفنا بعضهم وكثيرهم عقب الوظيفة نسيناه ياما انتظرنا في رجا الله خلفهم وياما تحسفنا عقب ما عرفناه أبيات قليلة ومعان كثيرة لا تحتاج إلى شرح، ولكن إلى وقفة عميقة أمام هذه الأبيات القليلة المليئة بالحكمة، تلك تتجلي أيضا في أبيات قليلة أخرى ولكنها تقودنا إلى داخلنا لنقرأ ونقارن أبعاد حكمة عند المراية: كل شي له على الدنيا نهايه ما يدوم إلا وجه رب العباد لا يغرك مظهرك عند المرايه تحسب أنك ما لك مثيل بالبلاد إن الشاعر هنا يخاطب ذواتنا المتضخمة عندما نقف أمامها في نشوة ، إن المراية هنا تعادل الدنيا وليس فقط المرآة التي نطالع فيها ذواتنا لنتأكد من حسن مظهرنا.. وفي وقفة أمام القصيدة التي يحمل عنوانها الديوان وزن الكلام، ندرك مغزى ما أراد أن يوصله إلينا الأمير الشاعر خالد الفيصل إذ يقول في القصيدة: الشعر يغشاني شعاعه وسلمت ماهو بودّي ولكن الله بلاني اذكر أبوي وجدي إذا تكلمت وأوزن كلامي قبل أحرك لساني وأنا عن الهزله من القول حرمت والله ما أقبل ساقطات المعاني الشاعر هنا الذي ابتلي بالشعر الذي قالت العرب في معناه ومغزاه ما قالت، عندما يقوله يتذكر حكمة الأب والجد والأب هنا والجد كانا حكيمين من حكماء العرب، الحكمة كانت لديهما ميراثا واكتسابا، والكلام لديهما لا يلقى على عواهنه، ولكن يوزن قبل ان ينطق ليؤثر ويبتعد عن الغثاء والهزل، ولذا لا يتضمن ساقطات المعاني. إيجاز وثراء يقودا إلى عالم من المعاني، ووقفات أمام الكلام وعمق المفردات.. من الوقفة مع الذات والواقع إلى التغني بالوطن العشق الكبير الذي مهما سافرت بِنَا الأيام وأبحرت بِنَا السنين لا ننسى الوطن بأمجاده: أترك لمن بعدي بدربي مظاريف فيها مصابيح التجارب قلايد مانيب احسب للمعالي مصاريف مجد الوطن عندي سنام الفوايد الشاعر هنا يسافر ويرقى ويكتب القصائد ويحزن ويفرح ويتعب ويستريح ولكن مجد الوطن هو أعلى الفوائد مهما عظمت. والوطن الذي يحضر بقوة في ديوان وزن الكلام يتجلى في كل أرجاء الديوان متمثلا في الذات والمكان والآخر، ومتجليا في المواقف والمبادئ والعقيدة، يقول الشاعر في عز الأوطان: وش عاد لو قالوا نهايات الازمان ما والله نخلي وطنا نهايه وش خانة الدنيا بلا عز الأوطان ووش خانة الرجال ما ينغزي به نثبت على الموقف ولو كان ما كان عاداتنا الوقفات فرد ولايه والله ما يرضى على الدين عدوان ولا على شمس الشريعة سحابه أعزنا الله بآخر أديان الإنسان وآخر نبي بالرسل خصنا به والوطن الذي يرتبط بوجود وكيان الشاعر لا يمكن أن يتخلى عن هواه وعشقه وارتباطه به حتى ولو تخلى الجميع عنه: لو تخلوا فلا والله تخليت عن هواي الوطن دار الكرامه في المنابر وفي الساحه وفي البيت اتغزل بشعري في غرامه الفيصل الشاعر لم ينفصل عن الفيصل المسئول والإنسان الذي يحب ويتأثر ويتألم لفقد الأحباب والأقارب. فها هو يرثي الملك فهد -يرحمه الله- رثاء من القلب مفعما بالألم ومليئا بمآثر الراحل: مرحوم يا حاتم وفارس زمانه يا من أعز السيف والمال أهانه ربي عطاه من المهابة مكانه في حضرته تصير عدوانه اقزام وها هو يثمن موقف صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف الذي تصدى للإرهاب بكل جهده دون خوف أو وجل قائلا: جنّب اللي ما وقف موقف محمد ابن عمي نايف قروم الرجال مثل ابوه ومثل عمانه مردد نادر مجناه من عم وخال حجّم الإرهاب شهم ما تردد لين شتّت شمل تجنيد الضلال وزن الكلام ديوان يرصد لموضوعات عديدة، تحتاج إلى صفحات ووقفات طويلة؛ لتتكلم فقط عن شعورك وأنت تقرأ، وإذا توقفت لتدرك أبعاد الكلمات والمعاني؛ عليك أن تتوقف أكثر وتكتب أكثر. ونحن هنا نقدم إشارات أو ملامح تؤكد على أننا أمام مبدع بكل معنى الكلمة.. مبدع لا يفرق بين مسئولية الكلمة ومسئولية السلطة، فلكل منهما دورها، وكلاهما يبنيان ويشيدان الوطن والإنسان. «وزن الكلام» ليس مجرد ديوان شعر محمل بدفقات شعرية، تمر عليها مرور الكرام، لكنه تاريخ مبدع ووطن، وجماليات كلمات منتقاة وعفوية في نسيج مدهش يوقفك طويلا أمامه، وأيضا زخم من القوافي المدهشة ببساطتها وعمقها في آن. فأنت لا تملك حتى وإن لم تتلمس جيدا تاريخ وجغرافيا ونسيج الواقع الذي انطلق منه الشاعر، إلا أن تدهش وتقف احتراما لهذا الكلام، الذي أراه إبداعا شعريا حوله تواضع الشاعر إلى (كلام)، ولكن من لون آخر يدهشك ولا تمل من معايشته مرارا.