حاوره/كمال الرياحي-تونس ظل فن الكاريكاتير في تونس فنا مهمشا منذ بدايته في الثلاثينيات مع جماعة تحت السور الأدبية مرورا بفترة الاستقلال التي حاول فيها بناء هويته، لكن سرعان ما أجهز عليه مع فترة النظام السابق وتحول بعضه إلى أداة من أدواته للسيطرة. وهذا ما دفع البعض إلى الانسحاب من المشهد والتزام الصمت حتى جاءت الثورة التونسية فرجع بعض الرسامين للنشاط ومنهم الفنان توفيق عمران الذي يستعد هذه الأيام لإطلاق معرضه الجديد حول مناهضة العولمة التي يعتبرها غولا تجب محاربته لأنه يهدد هويتنا الثقافية. والتقت الجزيرة نت عمران لمحاورته حول واقع الكاريكاتير في تونس وحول حرية هذا الفن وحدوده في ظل التطورات التي يشهدها العالم اليوم. تعتبر فترة الثمانينيات فترة المتناقضات والتحولات في فن الكاريكاتير بتونس.. هي فترة الازدهار وإعلان الموت في الوقت نفسه، فما الذي حدث حينها؟ فعلا، لا يمكن الحديث عن فن الكاريكاتير في تونس إلا وبرزت فترة الثمانينيات العصيبة، فهذه العشرية عرفت بازدهار الصحف المعارضة والمستقلة كالرأي والوحدة والمستقبل ولوفاس الناطقة باللغة الفرنسية. كان هناك في البداية هامش من الحرية وصعود مجموعة ضغط تستعد للانقضاض على السلطة يتزعمها زين العابدين بن علي كمدير للأمن ثم وزير للداخلية، وأول إجراء قامت به هذه المجموعة هو تجفيف منابع الإعلام الحر، وعندما لم أجد صحيفة ترغب في نشر رسومي آثرت الانسحاب. دخلت في تلك الفترة في ما يشبه العمل السري وأصبحت رسومك تهرّب في المناشير المناوئة للنظام؟ أجل، كنت أنشط بشكل سري لفائدة تنظيمات سياسية يسارية. كيف نجوت إذا من الاعتقال رغم بصمتك الواضحة على هذه الرسومات؟ كنت أغير أسلوبي بإدخال الألوان على الرسوم حتى لا أعرف، ثم أقوم بمسح الملف من الكمبيوتر، ولهذا لا أحتفظ بأي رسم من هذه الرسوم، كما كنت أصمم معلقات لحقوق الإنسان وسجناء الرأي كمعلقة المطالبة بإطلاق سراح مساجين الحوض المنجمي عام 2008 وكنت أتجنب وضع توقيعي تجنبا للمتابعات. ما الذي كسبته من تلك التجربة السرية؟ تعلمت من العمل السري القدرة على تغيير الأسلوب والتمويه وتطويع هذا الفن للظروف الطارئة، وكذلك التغلب على حاجز الخوف، فكسر هذا الحاجز ضروري للفنان ليكون مستعدا نفسيا لمواجهة كل الاحتمالات السيئة. هل يمكن لفن مثل الكاريكاتير أن يعيش وينمو ويتطور في ظل الدكتاتورية؟ لا يمكنه أن ينمو في ظل الدكتاتورية المطلقة.. أقول المطلقة وأعني دكتاتورية بن علي، إذ في تلك الفترة كانت الصحف هي التي ترفض نشر الرسوم الجريئة بينما في فترة دكتاتورية الحبيب بورقيبة كان هناك هامش من الحرية التي سمحت ببروز بعض الأسماء الشابة آنذاك مثل لطفي بن ساسي، وعماد بن حميدة وعادل أمبية، وكنت واحدا من هذا الجيل الذي تعلم على الحبيب بوحوال والشاذلي بلخامسة ومصطفى المرشاوي. بعد الثورة رأينا ما يشبه انفجارا عاشه هذا الفن، ولكن هذه الفترة شهدت أيضا الكثير من الفوضى لانعدام ثقافة لفن الكاريكاتير في تونس تسمح له بأن يحمي نفسه من الطفيليات؟ هو انفجار إيجابي، وظهور عدد من رسامي الكاريكاتير بتونس بعد الثورة يمثل ظاهرة صحية، وقد شهدت هذه الفترة عودة بعض الرسامين القدامى أيضا، أنا مع التراكم حتى نعثر بعد ذلك عن النوعية. المشكل الأساسي اليوم هو إقناع المؤسسات الإعلامية بقيمة الكاريكاتير، فالكثير منا قضى نحبه على الفيسبوك، وذاك الفضاء لا يسمح بتطوير التجارب. ما الفرق بين فيسبوك وبقية المنابر الإعلامية؟ عندما يرسم الرسام الشاب وينشر بالجرائد فهو يختلط بالصحفيين ويطور رؤيته وثقافته ويستفيد من الآراء المختلفة للإعلاميين ويجوّد عمله وفق متطلبات العمل الصحفي مما يكسبه مرونة وعمقا، لكن في منابر التواصل الاجتماعي تبدو المسألة فوضى كفوضى المشهد بشكل عام، فرسام الكاريكاتير في تونس ليست له هوية واضحة، لا هو إعلامي ولا هو رسام.. إنه الخفاش الذي وجد نفسه منبوذا بين الطيور والفئران! من خلال مشاركاتك في معارض جماعية وشخصية في أوروبا وأفريقيا ما الذي رصدته في تجارب الدول الأخرى؟ الكاريكاتير هو المحرار الذي تقيس به مستوى الحرية في تلك الشعوب، لقد تفاجأت بالمستوى الممتاز لفن الكاريكاتير بأفريقيا، فهناك يجمع الفنان بين قوة الفكرة وعمقها وجمال الرسم، والعيب عندنا -نحن المغاربة- انشدادنا للتجارب الأوروبية بينما نعطي ظهورنا إلى أفريقيا، لهذا اخترت التوجه جنوبا وأطور تجربتي ومعارفي من خلال التعرف على التجارب الأفريقية. في ظل الولاءات الحزبية لمعظم المنابر الإعلامية في تونس كيف يمكن للكاريكاتيري أن يكون حرا في منابر غير حرة؟ الرسام من حقه أن يتبنى أيديولوجيا ولكن ليس من حقه أن يكون متحزبا، لأن التحزب يفقده الموضوعية، فيساريتي المعلنة لم تدفعني للانتماء إلى أي حزب من الأحزاب اليسارية التونسية. الأكيد أنك تابعت قصة جريدة شارلي إيبدو واستهداف الصحفيين والرسامين الذين يشتغلون بها بسبب تعرض تلك الصحيفة الساخرة للإسلام، ما رأي فنان الكاريكاتير في ما حصل؟ هل يمكن أن نضع حدودا لفن ما، وهل للفن حسب رأيك أن يوظف توظيفا رديئا ضد الإنسان والمعتقدات؟ لا يجب بأي حال من الأحوال اغتيال المبدعين، فالفكرة تجابه بالفكرة، ومن يرفع السلاح في وجه فكرة هو شخص غير قادر على الإقناع، أرى أن القاتل والمقتول كلاهما ضحية، الرسامون ضحايا أفكارهم والقتلة ضحايا جهلهم. أعتقد أن الرسوم المستفزة للرسول ما كان لها أن تتواصل لأن نقد الإسلام يمكن أن يكون من خلال الظواهر السيئة كالإسلام السياسي أو الجماعات المسلحة مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وأسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي لا من خلال النبي محمد والقرآن، لأن محمدا والقرآن يمثلان المسلمين جميعا وهم في معظمهم مسالمون، أما داعش والقاعدة فيمثلان الأقلية وشذوذا عند المسلمين. خطأ شارلي إيبدو أنها سقطت في التعميم، كان عليها أن تحترم خصوصيات الشعوب والحضارات، فالحضارة الغربية تسمح بكسر التابوهات وذلك داخل في ثقافة الغربيين وحياتهم اليومية، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من حرية بعد قرون من الصراعات بين المفكرين والكنيسة، بينما الحضارة الشرقية حضارة متدينة تحترم المقدس ويجب على الكاريكاتيري في العالم أن يعي ذلك، فالمواطن العادي لا يقبل الإساءة للقرآن والرسول، وهذا يجرنا إلى الحديث عن الهولوكست، وهو أكبر التابوهات الغربية ولا يتجرأ على الاقتراب منه أي كاريكاتيري غربي أو الاستهزاء به لأن إسرائيل ستكون له بالمرصاد. هل هذا يعني أن هناك أخلاقيات لفن الكاريكاتير؟ نعم، هناك أخلاقيات وهي معروفة، مثل تجنب المساس بالأقليات والتمييز العنصري والمساس بالأديان. يتحدث البعض عن نهاية زمن الالتزام، وأن القضايا الكبرى لم تعد موضوعات جدية للفنون وأننا نعيش زمن التشظي وأزمنة التفاصيل، فما رأيك؟ الالتزام هو الدفاع عن قضية أو قضايا معينة كالسياسة والعرق والأقليات، رسام الكاريكاتير ملتزم بطبعه.. ومن واجب هذا الفن فضح المستور سياسيا واجتماعيا ودينيا، أما مقولة انتهاء عصر النضال فهذا ما يروجه بارونات ثالوث المال والسياسة والإعلام لتفتيت الفكر المضاد. منذ بداية الخليقة كان هناك الحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم والغني والفقير، وهذه هي القضايا الكبرى الأزلية ولن يكون فنان الكاريكاتير إلا في صف المحكومين والمهمشين والمظلومين والفقراء.