×
محافظة المنطقة الشرقية

«الشويهين» تزفُّ نجلها «مساعد»

صورة الخبر

في الثقافات المذهبية يُولد الإنسان مُتحيزاً منذ البداية، ويضحي التفكير والنظر والمسائلة، وهنّ ركائز الإنسان الحر، عيوباً كبرى، تقوم الثقافة عبر ممثليها بعملية استئصال لها، واجتثاث لوجودها؛ حتى يبدو الإنسان الآخذ بهن قادماً من كوكب آخر، لا يمتّ إلى عالمه بشيء، فتبني الثقافة بهذا ما يُسمّى بالاستلاب، وتُشارك مشاركة فعالة في زراعته، والعناية به، وإقناع الناس بدعوته. والأمة التي يستلبها ذووها بالغطاء الثقافي الذي يصطنعونه لها تفقد عقول بنيها، وتُحوّلهم من مشاركين في البناء، ومسؤولين عنه، إلى حُماة لما كان، ومدافعين عنه؛ فيفقد الإنسان أهم مقوماته، وتفقد الأمة أهم عنصر تحتاج إليه في معركة الحياة! والإنسان المستلب يُغرم بكل ما يزيد من استلابه، ويُساعده على القناعة به؛ لأنه يرى في ذلك تماهيا مع الحق، واندماجا معه، فيتطبّع عقله بهذا، وأخطر شيء يبلغه استلاب الثقافة أن تُصبح عناوين الكتب، ولافتات المقالات، صادرة عن ذلكم الداء، ومُعبّرة عنه، وأخطر من هذا أن يكون أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، والأكاديميون في الكليات، وهم الذين يُنتظر منهم بناء عقل ناقد، واستصلاحاً دائماً للتفكير، خاضعين لهذا الاستلاب، ومندمجين معه في اختيار عناوين كتبهم، ومتولين دفّة الدفاع عنه بها. إنّ المرأة يجوز لها إبداء وجهها وكفيها، وأنه الظاهر من زينتها، وأنّ الرجال لا يحرم عليهم النظر إلى ذلك إلا عند قصد الالتذاذ، أو الخوف من الافتتان».. وهذا الرأي عندي أقرب إلى روح الدين، القائمة على تربية الإنسان، وزراعة الوازع فيه، وهو أليق المعاني، وألصقها بفكرة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان أمامي في مسألة حجاب المسلمة ثلاثة كتب؛ أولها كتاب الإمام الفقيه المحدث الحافظ، هكذا كتب على غلاف الكتاب، ابن القطان الفاسي، وعنوانه "النظر في أحكام النظر بحاسة البصر"، وثانيها كتاب الشيخ الألباني، وعنوانه "حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة"، وثالثها كتاب أ. د لطف الله خوجة، وعنوانه " الدلالة المحكمة لآيات الحجاب على وجوب غطاء وجه المرأة"، والاختلاف بين هذه العناوين يكشف ما حدّثتكم عنه في الفقرتين السالفتين، يكشف الفرق بين إنسان استلبه العلم وطلبه، وصارت عينه على المباحثة والنظر وتقليب النصوص، والسعي في اكتشاف مرادها، وبين إنسان استلبه الرأي الفقهي، وملكته الثقافة السائدة، ودفعاه إلى ادّعاء شيء، لا تساعده عليه النصوص، ولا يسمح له خلاف العلماء حوله، من لدن الصحابة إلى هذا العصر، به. الفرق بين هذه الكتب وأصحابها هو الفرق بين من يبحث عن الصواب، ويسعى له، وبين من يملكه، ويجهد في تأييده، وتقوية القول به؛ ذاك عن الحق والصواب باحث، يطرح الآراء، ويجمع النصوص، ويُظهر كل رأي، وينصره بما يجده بين يديه، وذاك مشغول بما يُقوّي اختياره، ويساعد على نصرته؛ فهو غافل أو متغافل عن حجج الآخرين وأدلتهم، ومتجه بكل ما يملك من قوى إلى نصرة قبليّاته، والمدافعة عنها، وتكون النتيجة أن عناوين الكتب مختلفة بين هذين الصنفين من الناس، وكاشفة عمّا تعرّض له الإنسان من ثقافة، أفقدته التوازن، وأبعدته عن طريق البحث العلمي الذي لا معنى له إلا حين يكون المعيار الأساس فيه هو العلم وحده، وليس الثقافة السائدة، والانتصار لها. الإنسان المستلب، والثقافة المسْتلِبة، لا علاج لهما إلا عبر طرح مضاد تماماً، يكون همه إيضاح الصورة المخفية من النصوص، وإبراز آراء الأئمة المخالفين لها، وهذا ما سأحاول القيام به في هذا المقال؛ لكني مع ذلك أُكّد من جديد على أني أقوم بهذا من أجل إظهار المخفي، وجلاء المستور؛ فلا ينتظر مني أحد أن أسوق أدلة التغطية؛ لأنها مشهورة ذائعة، ومعروفة متداولة، وعلى ما فيها من ضعف وليونة؛ فقد أضحى الناس يوردونها دون التفات إلى ما فيها من ضعف وجوانب نقد، فهم لا يعرفون ضعفها، ولا يحرصون عليه؛ لأنها فقط كانت معارفهم الأولى، وحصيلتهم المتقدمة. من المثير أن تخلو الروايات التي يسوقها المفسرون حين الحديث عن آية الجلابيب من آثار عن ابن مسعود، وهو الصحابي الأشهر في قضية ستر المرأة وجهها وكفيها! على حين نجد الطبري يروي عنه أثراً في تغطيتهما حين تناوله بالتفسير آية سورة النور (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها). ووجه الإثارة هنا أن بعض المتأخرين يرون في آية إدناء الجلابيب دلالة ظاهرة على ستر الوجه، وهو مذهب ابن مسعود الذي يُنقل عنه؛ فلو كان الحال هكذا؛ لرأيناه يجعل هذه الآية حجة له في تفسيره آية النور، ويبني عليها أن المراد ب(ما ظهر منها) هو الثياب؛ بدليل أن الإدناء يعني تغطية الوجه وستره، كما هو صريح الآية عندهم!، أو لوجدنا أحداً من تلاميذه، كعبيدة السلماني، يحكي ذلك عنه، أو يحتج بالآية على مذهبه. من يقرأ الطبري، وكذا غيره من كتب التفسير كالقرطبي، لا يجد لابن مسعود ذكراً في تفسير آية الجلابيب، بل يجد المفسرين ينقلون عن ابن عباس أن الإدناء يراد منه تغطية الوجه، وإبداء عين واحدة، وهذا المنقول عن ابن عباس خلاف المشهور عنه أولاً، وهو ضعيف من حيث الرواية؛ لأن رواته عنه هم أبو صالح عبدالله بن صالح المصري، المعروف بكاتب الليث، وهو ضعيف "صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت له أوهام" (تقريب التهذيب)، ومعاوية بن صالح، قاضي الأندلس، "صدوق له أوهام" (تقريب التهذيب)، وعلي بن أبي طلحة، "أرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق قد يخطئ" ( تقريب التهذيب). ولم ير الطبري في هذا النقل عن ابن عباس حجة لابن مسعود حين حديثه عن آية (إلا ما ظهر منها)، بل ذهب يختار مذهباً مخالفاً لهذا المروي عن ابن عباس وابن مسعود، وهو الذي ذكرهما، وهذا عنده وعند القرطبي من الدلائل على أنهما يميلان إلى عدم دلالة الآية على تغطية الوجه وستره بالحجاب، فكيف ببعض المتأخرين أن يحتج بشيء لم يره هذان المفسران حجة؟ وكيف يحتج بعض المتأخرين على مذهب ابن مسعود بشيء لم يره هو ولا تلاميذه حجة؟. ومما هو أشد إثارة من المتقدم؛ أن تنزل هذه الآيات في بدايات الإسلام ثم لا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يُذكر بها النساء اللاتي يبدين وجوههن كالخثعمية، وحديثها في البخاري ومسلم وغيرهما، وكالمرأة التي في حديث جابر عن حجة رسول الله، وهو حديث في مسلم. مقتضى ما يميل إليه المحتجون بآية الجلابيب وغيرها هو دلالتها الصريحة على تغطية الوجه؛ كما هو رأي لطف الله خوجة وغيره، وإذا كان الأمر كما ذهب هؤلاء؛ فكان من المنتظر أن يأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، هاتين المرأتين بتغطية وجهيهما، وخاصة الخثعمية؛ لأن حديثها بعد يوم عرفة الذي نزل فيه قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)؛ وإذا لم يفعل فذلك دليل صريح قاطع على أن الآية لا تدل على هذا المعنى الذي فهموه. ومما يُحتج به على جواز كشف الوجه في سياق الحديث عن تفسير هذه الآيات، والمأثورات فيه؛ أن أكثر الصحابة، رضي الله عنهم، روي عنهم هذا الرأي؛ فالبيهقي في سننه يجعل هذا الرأي مروياً عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، ويجعله ابن القطان في كتابه "النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" مروياً عن ابن عباس وابن عمر وأنس وعائشة وأبي هريرة (النظر في أحكام النظر 49). وإذا كانت تلك أدلة متعلّقة بكتاب الله تعالى وتفسيره؛ فثمة أدلة مروية في كتب الحديث، ومنها حديث الخثعمية المشهور، وتقدّم في المقالات السابقة ذكره، وتبيان وجه الاحتجاج به، ومنها حديث جابر في حجة رسول الله؛ إذ جاء فيه " فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر"، رواه مسلم وابن حبان وغيرهما. هذا الحديث دليل على أنّ المرأة يجوز لها كشف وجهها، وليست محكومة بتطلع الرجال إليها، أو عدم تطلعهم نحوها. وإذا قرأناه من خلال ما أفتى ابن باز، رحمه الله، من أن على المرأة المحرمة أن تُغطي وجهها عن الرجال الأجانب، وأن المنهي عنه في الحج والعمرة هو التغطية بالنقاب، وليس مطلق التغطية؛ كان الحديث دليلاً واضحاً على جواز كشف المرأة وجهها، وأنّ الرجل هو الذي يُطلب منه غض البصر، وكف الأذى؛ إذ لو كانت المحرمة مأمورة، كما يقول الشيخ ابن باز، بالتغطية في حضرة الأجانب لكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمرها بالتغطية حين مرت بالرجال. ومن الأحاديث الدالة على كشف الوجه حديث قيس بن أبي حازم قال:"دخلنا على أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، في مرضه فرأينا امرأة بيضاء موشومة اليدين تذب عنه، وهي أسماء بنت عميس" (معجم الطبراني 24 / 131 ). ومنها أيضا حديث أبى إسحاق عن هانئ بن هانئ قال:" جاءت امرأة إلى علي، رضى الله عنه، حسناء جميلة، فقالت: يا أمير المؤمنين هل لك فى امرأة لا أيم ولا ذات زوج؟ فعرف ما تقول. فأتى بزوجها فإذا هو سيد قومه. فقال: ما تقول فيما تقول هذه؟ قال: هو ما ترى عليها..." ( السنن الكبرى 7/ 227). وكل ما تقدم من حديث في التفسير، ونقل للأحاديث، ورواية لمواقف أكثر الصحابة في القضية، يُقوّي حديث عائشة، رضي الله عنها، الذي أعلّه أبو داود بالانقطاع، ويشهد له، ويجعله لنا حجة مقبولة، تُضم إلى ما تقدم، وهو قولها:"أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله، ص، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله ص، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه" (سنن أبي داود 4 / 62 ). وأختتم هذا المقال بخلاصة رأي الشيخ ابن القطان ( المتوفى سنة ست مئة وثمان وعشرين)، القائل في كتابه ( 196 ):" إنّ المرأة يجوز لها إبداء وجهها وكفيها، وأنه الظاهر من زينتها، وأنّ الرجال لا يحرم عليهم النظر إلى ذلك إلا عند قصد الالتذاذ، أو الخوف من الافتتان"، وعلى من يريد الانتفاع بكل ما في هذا الكتاب أن يرجع إليه، ويتأمل ما فيه، وهذا الرأي عندي أقرب إلى روح الدين، القائمة على تربية الإنسان، وزراعة الوازع فيه، وهو أليق المعاني، وألصقها بفكرة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.