ما يشهده الغرب راهناً من توجّس وارتباك وردود أفعال متباينة بخصوص العمليات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا، أو كادت أن تتعرض لها بلجيكا، وربما بوادر عمليات أخرى في ألمانيا أو غيرها من الدول التي آثرت عدم الإعلان؛ يؤسس لمرحلة قاتمة من العلاقات والتفاعلات الداخلية ضمن المجتمعات الغربية ذاتها؛ وعلاقات المجتمعات المعنية مع البلدان العربية والإسلامية. وعلى رغم كل عبارات المجاملة والكياسة التي حرص السياسيون على استخدامها وترويجها، فالواقع الفعلي غير ذلك. وقد بلغ الأمر بالشباب الأوروبي في العديد من الدول إلى حد عقد الاجتماعات العلنية، التي طالبت باتخاذ إجراءات لقطع الطريق أمام ما يمكن تسميته «أسلمة أوروبا»، حتى أن بعضهم جاهر علناً منتقداً السياسيين قائلاً: «ليس من حق أحد أن يخلق المشكلات لأجيالنا القادمة عبر فتح الحدود أمام المسلمين». وقد دفعت هذه الأجواء بالكثيرين إلى التعامل مع ما ذهب إليه صموئيل هنتغتون في كتابه «صراع الحضارات» (1996) وكأنه نبوءة حان وقت تحقّقها. بمعنى أن الصراع بين أوروبا والعالم الإسلامي بدأ وسيستمر، بخاصة في ظل تنامي التطرف الديني، وتعددية أسماء ومرجعيات الجماعات المتشددة التي بات التنافس في ما بينها عاملاً من عوامل تزايد شراستها ووحشيتها. وهكذا أصبحنا أمام حلقة مفرغة: تطرّف يتجسد في إرهاب قاتل؛ وردود أفعال قوية تطالب باعتماد أقسى الإجراءات الاستئصالية، لترتفع حدة التطرف وتتفاقم الأعمال الارهابية. وما يساهم في ارتفاع التوتر يتمثّل في الأوضاع غير المقبولة التي تعاني منها الجاليات المسلمة في أوروبا، وذلك لأسباب كثيرة تؤكد إخفاق سياسات الاندماج، وسوداوية الآفاق أمام الأجيال الجديدة من المهاجرين المسلمين تحديداً. وعبر مراحل تاريخية مختلفة، لم تكن العلاقة السياسية بين الشرق العربي – الإسلامي والغرب على ما يُرام. هذه مسألة لا بد أن نعترف بها، ونتعامل بحكمة مع ما يترتب عن ذلك من مشاعر، وأحكام مسبقة، ونزعات احترازية لدى الطرفين؛ في حين أن العلاقات الفكرية والاقتصادية، بخاصة التجارية منها، هي التي كانت تخلق قاعدة للتفاهم المشترك، وتفتح الأبواب أمام إمكانية حوار وتفاعل حضاريين، كان من شأنهما لو استمرا من دون انقطاعات أو حتى صدامات، أن يؤسسا لمستقبل أفضل للطرفين. ولن نتناول هنا واقع هذه العلاقة خلال سائر المراحل التاريخية، فهذا موضوع يستغرق وقتاً وجهداً؛ وإنما سنركّز على المحطات التي تلت الحرب العالمية الأولى لأنها ما زالت فاعلة مؤثّرة في وضعيتنا الراهنة. فبعدما تمكّن التحالف الإنكليزي- الفرنسي والروسي من الانتصار على الدولة العثمانية، تم تقسيم المنطقة وفق المصالح والاستراتيجيات الاستعمارية. وعلى رغم الانسحاب الروسي من الساحة بعد انتصار الثورة الشيوعية عام 1917، استمرت بريطانيا وفرنسا – كما نعلم- في مخططاتهما التي استندت إلى الاتفاقية الأشهر في تاريخ منطقتنا، «سايكس بيكو»، التي بنيت على أساس مراعاة المصالح وتأمينها؛ لا سيما بعد تصاعد الحاجة إلى النفط، وضرورات التحكّم بطرق الملاحة، ما دفع الدولتين نحو دعم القوى القادرة على تأمين هذه المصالح، لتقود هي الكيانات الجديدة التي كان من المفروض أن تتحول إلى دول تمتلك مشاريع وطنية، تمكّن من بلورة معالم هوية مشتركة، كان من شأنها تعزيز الشعور بالانتماء المشترك، وقطع الطريق على الكثير من الصراعات التي جرت لاحقاً، وربما تحدث مستقبلاً. وأسهمت القيادات الجديدة في إنجازات واعدة على صعيد الدستور والإدارة والتعليم والصحة، مستفيدة من مناخات الاستقلال، والمشاعر الشعبية الجياشة المتفاعلة. ولكن المرحلة المعنية لم تدم طويلاً، إذ جاءت الحرب الكونية الثانية، لتكرّس انقساماً دولياً حاداً بين معسكرين متناقضين في المصالح والتوجهات، وانعكست سلبيات ذلك على دول ما بعد الحرب العالمية الأولى، بخاصة سورية والعراق ومصر، وفي ما بعد الجزائر وتونس والسودان وليبيا. فقد برزت مجموعة من القيادات العسكرية الملتحفة بإيديولوجية قوموية، كانت مزيجاً من الأفكار النازية والفاشية والشيوعية السلطوية. قيادات وجد فيها الغرب الرأسمالي الديموقراطي قوى قادرة على حفظ المصالح من دون إعطاء أي اعتبار لحقوق الشعوب وتطلعاتها. كما وجد المعسكر الاشتراكي فيها وفي معارضاتها، مادة إعلامية للدعاية الأيديولوجية، وجسراً يسهّل عملية الوصول إلى مواقع مؤثرة في لعبة الأمم. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، تراجعت الأيديولوجية القوموية الاشتراكية في صيغتيها البعثية والناصرية. كما انحسرت التيارات الماركسية بأسمائها المختلفة. وأصبح الطريق معبداً أمام الإسلام السياسي، ليقدّم نفسه بوصفه الحل في مواجهة الإخفاق الشمولي للأنظمة الاستبدادية في مختلف الميادين، وعلى جميع المستويات. وكانت المصادمات بين الطرفين في غير مكان، وكانت دامية طاحنة في بعضها (الجزائر مثلاً في بداية التسعينات). وجاءت أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 لتؤكد أننا أصبحنا أمام ظاهرة جديدة، ظاهرة السلفية الجهادية كما تُعرف، التي أخذت من النصوص ما يوائم توجهاتها، واستخدمت العنف والإرهاب، إلى جانب التكفير الديني في سياق سعيها لتنفيذ توجهاتها، مستفيدة من النقمة الشعبية على الأنظمة الاستبدادية، الأمر الذي أجهض جهود المطالبين بالتغيير الديموقراطي. بل أن أصحاب هذه الجهود باتوا في موقف صعب للغاية نتيجة تعرّضهم لحملات القمع والتغييب من جانب النظم الاستبدادية وكذلك حركات الإسلام السياسي المتشدّدة. أما الأنظمة الديموقراطية الغربية، فاختارت من جانبها مساندة الاستبداد، لاعتقادها بأنه الأقدر على حماية مصالحه وضبط الأمور، بما يضمن استمرارية المصالح المعنية، وعدم تعرّضها لأي خطر. كما استمرت الأنظمة المعنية في تجاهلها لضرورة الوصول إلى حل واقعي عادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ ولم تتوقف كثيراً عند العلاقة التضايفية بين الاستبداد والإرهاب، والتنسيق الدائم القائم بينهما. ولعلّ مثال تعاون النظام السوري مع الجماعات الإرهابية التي كان يرسلها إلى العراق، وتغطيته للجهود الإرهابية التي كانت تتم بتوجيه منه، بل وبتنفيذ مباشر من جانب أجهزته في لبنان، لعلّ هذا المثال يؤكد مدى متانة العلاقة بين الاستبداد والإرهاب. ويمكننا القول إن الإرهاب مشروع سياسي إعلامي تجييشي، يستخدمه الاستبداد لإرهاب المجتمع الداخلي أولاً، ورفع سقف الصفقة مع القوى الدولية المقررة لمصائر الحكام في منطقتنا. غير أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها أوروبا في أكثر من بلد؛ إلى جانب حالة الاحتقان غير العادية في المجتمعات الغربية - وهي حالة تتمحور حول الخوف من الإسلام والمسلمين- تنذر بمستقبل قاتم الملامح في الغرب وفي منطقتنا على السواء، وذلك إذا ما استمرت الأمور هكذا، ولم يتم اعتماد استراتيجية متكاملة مغايرة بصورة جذرية لتلك المستوحاة من أطروحات صراع الحضارات؛ استراتيجية تركز على أهمية المشروع المدني الديموقراطي في منطقتنا، وتؤكد أهمية الحوار والتمازج الحضاريين بين مجتمعاتنا ومجتمعات الغرب؛ وفي ذلك إنقاذ للطرفين من مخاطر سوداوية تلوح في الأفق. فالمشروع المدني الديموقراطي سيحقق الأمن والاستقرار لمجتمعاتنا، ويفتح الآفاق أمام أجيالنا القادمة عبر مشاريع تنموية حقيقية تستثمر مواردنا الطبيعية والبشرية بعقلانية رشيدة، الأمر الذي سيقطع الطريق أمام نزعات التطرّف من خلال التضييق عليها مجتمعياً، وحصرها في إطار بؤر معدومة التأثير والمستقبل. والمشروع نفسه سيوفّر للغرب الجديد العقلاني أن يثبت وفاءه للمبادئ الأخلاقية التي يعلن التزامه بها، كما سيمنحه فرصة التعامل المتوازن مع مجتمعاتنا الفاعلة، التي لن تصدر إليه اللاجئين، والتطرف بأشكاله المختلفة، وإنما ستغدو شريكاً إيجابياً، يساهم بقوة في الجهود الاقتصادية التي ستكون نتائجها في مصلحة الطرفين، وفي الحوارات الثقافية التي أثبتت كل الأحداث ضرورتها وحيويّتها. الوضعية الراهنة معقّدة، وهي مرشحة للمزيد من التعقيد إذا استمرت الأمور على حالها؛ ولكننا ما زلنا نملك الفرصة الواقعية للبديل المطلوب، إذا أردنا ذلك بطبيعة الحال.