كان الاتحاد السوفييتي السابق زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب يعتمد على التفوق العددي كنوع من التفوق النوعي.. كان يدرك أنه لا يستطيع مجاراة التقنيات الأمريكية في نقل القنابل النووية (خصوصا الغواصات النووية والقاذفات بعيدة المدى) فعوض ذلك بعشرة آلاف صاروخ نووي عابرة للقارات مقابل ألفين لأمريكا.. كان يدرك عجزه عن مجاراة تقنيات الجيوش الأوروبية فعوض ذلك بصنع ثلاثين ألف دبابة متمركزة في شرق أوروبا مقابل سبعة آلاف فقط لحلف الناتو. وهذا مجرد مثال على أن "التفوق الكمي" يمكن أن يتحول الى "تفوق نوعي" في أي مجال يخطر ببالك سواء على مستوى الجيوش والشعوب والمجتمعات أو التعليم والتقنية والاقتصاد. فبخصوص الاقتصاد خذ كمثال تفوق السعودية الكمي (في انتاج النفط) الذي تحول إلى تفوق نوعي حين تراجعت أسعاره وأصبح بإمكانها المنافسة والصمود حتى عند أسعار أقل بكثير (بعكس دول كثيرة يصعب عليها ذلك بسبب ضعف الانتاج وارتفاع التكاليف). أما بخصوص الشعوب فخذ كمثال عدد الأذكياء والموهوبين في الهند والصين الذي يفوق (رغم قلته مقارنة بسكان البلدين) مجموع الطلاب في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا (في حال افترضنا وجود طفل موهوب من كل عشرة في مدارس الهند والصين)!! وكل هذه الأمثلة توضح فكرتي بخصوص دور الإنترنت في خلق أعداد هائلة من العباقرة والموهوبين.. دورها في خلق أعداد كمية تنتهي بأعداد نوعية من الأذكياء والموهوبين.. فانتشار الانترنت أتاح لملايين الناس فرصة الدخول إليها والمساهمة فيها ونشر أفكارهم ومواهبهم الخلاقة من خلالها.. ومجرد إتاحتها الفرصة لملايين الناس خلق (وسيخلق بمرور الأيام) صفوة من العباقرة والمبدعين لم نكن لنسمع عنهم لولا وجود الانترنت. دعنا نضرب مثالا بمجال الأدب والكتابة والنشر.. فحتى وقت قريب كان "واحدا" من بين "عشرة آلاف" يتاح له نشر إنتاجه الشعري أو الأدبي في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الرسمية.. أما اليوم فيمكن لجميع (العشرة آلاف) التعبير عن مواهبهم في فضاء الانترنت من خلال مدونات ومواقع تقدم إبداعاتهم للجميع!! كثيرا ما أقابل شبابا موهوبين في الكتابة والإبداع الأدبي ولكنهم يشتكون من ازدحام الصحف التقليدية وعدم منحهم فرصة الظهور فيها؛ فأبتسم وأقول: ولماذا تريدون الكتابة في الصحف ولديكم شبكة الإنترنت التي تفوقها انتشارا وسرعة وبقاء.. ولماذا تتزاحمون على صحف تقليدية محدودة الأماكن تموت مع ظهور العدد القادم في حين أتاحت الإنترنت لكل انسان فرصة إنشاء مدونته وصحيفته الخاصة والبقاء للأبد في فضاء الانترنت.. أخبرهم بصراحة أن (وسيلة النشر) لم تعد هي المشكلة كون الجماهير ستتابعك (في حال كنت موهوبا ومميزا) في أي مكان سواء نشرتها في الصحف والمجلات أو الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي!! ولاحظ أننا نتحدث فقط عن مجال الكتابة والنشر في حين أتاحت الانترنت ذات الفرصة لجميع الموهوبين والمبدعين في كل التخصصات. قبل فترة قصيرة قرأت أن هناك 3 مليارات شخص حول العالم يستعملون الانترنت هذه الأيام.. وفي حال افترضنا أن واحدا من كل مئة (من هؤلاء) يقدم فكرة جديدة يصبح لدينا 30 مليون فكرة يومية مفيدة. وفي حال افترضنا أن واحدا من كل مليون (من الثلاثة مليارات الذين يستعملون الانترنت) بمستوى أنشتاين والبيروني وأديسون فهذا يعني أن الانترنت حبلى (هذه الأيام) بثلاثة ملايين عبقري حول العالم!! باختصار: الانترنت جعلت مجتمعاتنا المعاصرة أكثر ذكاء وإبداعا بفضل الكم الهائل من الفرص التي أتاحتها لبلايين البشر حول العالم (حيث يتحول التفوق الكمي عند مستوى معين الى تفوق نوعي). ولكن.. أتعلمون أين تكمن المفارقة؟ في أن ظهور أعداد هائلة من العباقرة تجعل أنظارنا (كما كانت دائما) تتعلق فقط بقلة هي الأكثر شهرة وتميزا، رغم ارتفاع عدد المبدعين في المجتمع ككل!