كنا خلال الأيام القليلة الماضية شهوداً على مفارقتين لافتتين. أولاهما في الشرق الأوسط الملتهب بالإرهاب والفوضى الذي تجاهله المحللون وراحوا يبدون القلق على حال القارة الأوروبية، وبخاصة مستقبل استقرارها السياسي. أما المفارقة الثانية فكانت عندما وجدت أوروبا نفسها تتعرض في وقت واحد لحادثين جليلين. اليمين المتطرف يضرب ويقتل في باريس واليسار الجديد يستولي على الحكم في دولة أوروبية في انتخابات حرة، في تطور يعد الأول من نوعه منذ عشرات السنين. القلق على أوروبا ولو جاء من محللين شرق أوسطيين غارقين في هموم أشرس وأعتى، له ما يبرره، فالسياسيون الأوروبيون لا يخفون القلق، وكان اللورد كارادون أوضحهم تعبيراً عن قلق حكومته على مستقبل القارة. من ناحية أخرى لم يعد خافياً، أو غامضاً، الارتباط المتزايد بين أحداث الشرق الأوسط كالإرهاب الديني والفوضى السياسية في عدد متزايد من الدول وانهيار سعر النفط والنزاعات الناشئة حول الغاز وأنابيبه، وبين استمرار تدهور الأزمة الاقتصادية والمالية في دول منطقة اليورو والصعود المتسارع في المشاعر القومية المعادية للأجانب، وحملات العداء ضد الإسلام والمسلمين، وتفاقم مشكلة اللامساواة في الدخول وفي معدلات النمو بين الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي. شهدنا في السنوات الأخيرة اجتماع عدد من الأمراض الاجتماعية والسياسية الأوروبية على هدف تصعيد الشعور القومي داخل دول الاتحاد الأوروبي. وصل الأمر بكثير من المعلقين الأوروبيين إلى الحديث عن عودة مزاج الحرب إلى القارة الأوروبية التي دفعت فيها شعوبها ثمناً باهظاً على امتداد قرون متعددة. توقفت الحروب لسنوات معدودة هي سنوات الحرب الباردة لتستأنف شرورها في حرب البلقان وهي الحرب التي تكاتفت جميع دول أوروبا وأميركا والصين لمنع انتشارها وإبقائها ضمن حيزها البلقاني، ولكن للأسف الشديد نشبت بعد الحرب البلقانية حربان في جورجيا وأوكرانيا. المرحلة الانتقالية التي أعقبت وقف القتال جاءت بتكلفة عالية، حين أعيد استخدام العامل القومي لحل أزمة إقليمية لم تؤدّ بعد إلى الاستقرار والرخاء المنشودين. وبدورها عادت مشكلة البلقان تؤثر في الدول المحيطة بها لتكشف هشاشة الوحدة الأوروبية ولتؤكد عمق وخطورة المسألة القومية في العقل السياسي الأوروبي بعد مرور أكثر من ربع قرن على وقف الحرب البلقانية وبدء مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية. خرج معلق كبير يصف حال البلقانيين اليوم بقوله انهم يعيشون أتعس أيام حياتهم، فوضى سياسية شاملة، تظاهرات الاحتجاج تجتاح البوسنة والهرسك، والفيضانات تهدد مساحات شاسعة في كرواتيا والبوسنة والهرسك وبلاد الصرب. مليون ونصف مليون عامل عاطلون عن العمل. يقول أيضا وهو يضرب من دون قصد على وتر حساس نشعر به نحن الشعوب التي عاشت ثورات الربيع العربي والشعوب العربية عامة، يقول إنهم في البلقان يخضعون الآن لإرادة سياسيين منتخبين «لا يعرفون حتى الآن أن كانوا عائدين أو راحلين، ولا يدركون إن كانوا يلعبون الدور نفسه الذي كانوا يلعبونه في الماضي ولكن يلعبونه الآن في أوضاع مختلفة، أم أنهم يؤدون أدواراً مختلفة في أوضاع عادت إلى ما كانت عليه قبل بدء المرحلة الانتقالية». الوضع البلقاني يؤثر على «المزاج» العام في أنحاء القارة ويؤثر أكثر في كل أنحاء شرق أوروبا المهددة حالياً بنيران مشاعر قومية اشتعلت بفعل الفشل الاقتصادي وتفاهة عائد الانضمام للوحدة الأوروبية. ولكنه يؤثر أيضاً من خلال الحدود في شرق أوروبا التي تسمح بانتقال مهاجرين بأعداد وفيرة من العاطلين عن العمل من أهل المنطقة، كما من اللاجئين القادمين من أواسط آسيا والشرق الأوسط، يزاحمون عمال أوروبا الغربية على وظائف لم تحقق زيادة تناسب الأحلام التي خلقتها مسيرة الاتحاد الأوروبي. أضف الى ذلك عامل اللامساواة ليصبح القلق على مستقبل شرق القارة وربما أوروبا بأسرها له ما يبرره. أتحدث هنا عن اللامساواة على المستويين: مستوى الدول ومستوى المواطنين. المؤكد أن اللامساواة بين رخاء ألمانيا وغيرها من دول الشمال وحال الاقتصاد في دول شرق أوروبا وجنوب شرقها، وكذلك في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، تثير حساسيات متعددة داخل أجهزة الاتحاد وفي العلاقات بين دول القارة. ولكن ما يثير الشعوب من جديد ويعيد اللجوء الى السياسات القديمة، فهو بالتأكيد واقع اللامساواة في المداخيل بين مواطني شمال أوروبا ومواطني جنوبها وشرقها. من المسؤول؟ إنه السؤال المطروح على كل سياسي في بروكسل والعواصم الأوروبية الأخرى. هناك سرديتان متناقضان تحاول كل منهما الإجابة على السؤال. السرديتان تستندان إلى الأزمة اليونانية كنموذج حي. الأولى تحمّل مسؤولية تردي الأوضاع في اليونان لليونانيين أنفسهم الذين انتهجوا سياسات اجتماعية ومالية مستهترة خلفت عجزاً في الموازنة وديوناً وأزمات سداد بلا حدود. تقول السردية أيضاً، وبالتحديد في حال اليونان، إن هذه الدولة لم تشهد في أي وقت من تاريخها حال استقرار اقتصادي لمدة معقولة. الأزمات الاقتصادية فيها متعاقبة منذ القرن التاسع عشر. نعرف كذلك أن السياسة والسياسيين لم يحظوا أبداً باحترام الرأي العام، بل أن اليونان كانت الدولة الأوروبية الوحيدة التي تجرأت وسمحت للجيش بأن يحكم ولو لفترة قصيرة جداً. كذلك تتهم السردية الأولى اليونان بأنها مثل العديد من دول الشرق الأوسط والبحر المتوسط تعتنق سراً، وأحياناً في العلن، قصص المؤامرة الخارجية لتفسير أزماتها ونكساتها وتبريرها. هي الآن تتهم طرفين كبيرين هما صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي بتدبير مؤامرة ضد الأمة اليونانية ذات التاريخ المجيد. تقول الرواية الثانية إن المسؤول الرئيسي عن أزمة اليونان وعن أزمات أخرى تنشب بين الحين والآخر في إيطاليا وإسبانيا وغيرهما هو ألمانيا. ألمانيا هي التي فرضت التقشف سياسة أوروبية عامة على دول الاتحاد الأوروبي، وهي سبب تعاسة هذه الشعوب وهي الآن دافع أساسي لصعود الشعور القومي في شكل تيارات يمينية أو يسارية متطرفة، تنادي بالاستقلال الوطني واستعادة حق الدولة في الإشراف على حدودها الإقليمية. يعتقد أنصار هذه الرواية أن ماكينة التصدير الألمانية الجبارة تقف وراء كل السياسات المالية الأوروبية. ألمانيا في رأي أصحاب هذه الرواية لا تريد منافسة أوروبية لصادراتها وتريد أسواقاً مفتوحة لمنتجاتها ولكنها لا تستورد منهم على رغم أنها الدولة الأغنى والأقوى. يقولون إنه لا يمكن منطقة تجارة حرة أن تنجح إلا إذا تعاظمت قدرة الدولة الأغنى والأقوى على الاستيراد من بقية دول منطقة التجارة. هناك قلق من صعود التيارات اليمينية واليسارية المتطرفة في كل أنحاء أوروبا. الخشية الحقيقية تتعلق بانحسار الدعم الشعبي الأوروبي للفكرة الأوروبية، لأنه إذا استمر الانحسار وتصاعدت قوى وتيارات قومية معادية للوحدة فإن هذا يمكن أن يشكل خطراً حقيقياً يهدد السلم الأوروبي والعالمي والاستقرار السياسي في كل دولة على حدة. المتوقع الآن أن تساعد ألمانيا حكومة سيريزا اليسارية في أثينا على تجاوز وضع دقيق ومرحلة مفاوضات شاقة، تنتهي بمنح اليونانيين فرصة لالتقاط أنفاسهم واستعادة كرامتهم والاتفاق على سياسات مالية تطمئن شعب اليونان وغيره من شعوب جنوب أوروبا وشرقها، وإعادة بناء جسور الثقة بين الدولة الأقوى والدول الأضعف في القارة. * كاتب مصري