ما إن انحسرت موجة الحزن والتأثر التي عاشتها فرنسا تحولت الاعتداءات التي نفذتها شبكة كواشي إلى مرآة وضعت الفرنسيين وجهاً لوجه مع جملة من المشكلات العضوية الملازمة لمجتمعهم. صحيح أن الأخوين كواشي أعلنا انتمائهما إلى تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية، وصحيح أن شريكهما أحمدي كوليبالي أعلن ولاءه لـ «داعش» ولأبو بكر البغدادي أمير التنظيم، لكنّ كلاً من سعيد وشريف كواشي اللذين نفذا الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو»، حيث قتلا ١٢ شخصاً وكوليبالي الذي نفذ اعتدائي مونروج وبورت دوفنسان وتسبب بمقتل ٥ أشخاص، هم فرنسيون ولدوا ونشأوا على الأراضي الفرنسية. التحق الإرهابيون الثلاثة بمدارس الجمهورية، لكن النظام التعليمي الفرنسي لم ينجح في تكوين رابط يدفعهم للانخراط بالمجتمع فكبروا على الهامش وسط البؤس والإنكار. انحرفوا ودخلوا السجن حيث لجأوا إلى الدين ليبلوروا لأنفسهم هوية، لكنهم صادفوا من ضلّلهم فتجذروا وروعوا فرنسا على امتداد أيام عدة انتهت بمصرعهم برصاص القوات الخاصة. المشكلة التي كشفتها شبكة كواشي تغذت بالطبع من الخارج ومن النزاعات الدموية في سورية والعراق وفلسطين لكن جذورها داخلية فرنسية. لذا، فإن فرنسا تبدو اليوم بأمس الحاجة إلى تعزيز ركائزها الاجتماعية وتدعيمها لتحصين نفسها أمام أعداء الداخل من أبنائها. التساؤلات والنقاشات المطروحة اليوم على هذا الصعيد كثيرة وتتناول مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والتربوية والثقافية والاقتصادية، لكن أكثرها إلحاحاً هو موضوع السجون حيث ٦٠ في المئة من المعتقلين هم من المسلمين وكونها بؤر تجذير وإرهاب. وعلى غرار مهدي نموش الفرنسي المتهم بتنفيذ الاعتداء على المتحف اليهودي في بروكسيل ومحمد مراح الذي نفذ اعتداءات تولوز ومونتوبان من المرجح أن يكون أعضاء شبكة كواشي تجذروا في سجن فلوري ميروجيس حيث تعرف شريف كواشي على كوليبالي. في السجن نفسه صادفا الأصولي جمال بيغال المعتقل بتهمة الإعداد لاعتداء على مقر السفارة الأميركية في باريس بعد أن تلقى تدريبات عسكرية في كل من أفغانستان وباكستان. ويعتقد أن بيغال هو المسؤول عن تجذير المعتقلين اللذين ظلا يترددان عليه بعد إطلاقهما عندما كان موضوعاً قيد الإقامة الجبرية في منطقة كانتال وأنه أقنعهما بالإعداد لمحاولة تهريب إسماعيل آيت بلقاسم من السجن لإدانته بإعداد العبوات التي استخدمت خلال الاعتداءات التي شهدتها باريس ومناطق أخرى عام ١٩٩٥، وأعلنت «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية مسؤوليتها عنها. لم تتسنَّ إدانة شريف كواشي وكوليبالي في هذه المحاولة التي كان يفترض أن تتم عام ٢٠١٠، وبقيا طليقين وتم الاكتفاء بوضعهما قيد المراقبة القضائية لمدة من الوقت غابا بعدها عن أنظار الأجهزة الأمنية التي لم ترَ أن هناك ما يستدعي الإبقاء على مراقبتهما. وبقي كوليبالي وشريف كواشي على صلة، وانضم إليهما سعيد كواشي الشقيق الأكبر لشريف، والذي لم يكن معروفاً من جانب الأجهزة الأمنية وتبين لاحقاً أنهما سافرا إلى عمان ومنها إلى اليمن عام ٢٠١١، حيث تدرّبا على السلاح. ما إن كشف عن أسماء أعضاء شبكة كواشي حتى أعيد فتح ملف تجذير الشباب الفرنسي تحديداً في السجون على أوسع نطاق، خصوصاً على ضوء التداخل بين المعتقلين الأصوليين والجانحين. هذا الملف ليس جديداً على الساحة الفرنسية، بل هو موضوع سجالات وآراء متعددة من بينها تقرير أعده النائب غيوم لاريفيه ونشر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وحمل عنوان «من أجل خطة عمل لمكافحة التجذير الإسلامي في السجن». وينص التقرير على إنشاء وحدات مختصة بمكافحة التجذير وتقليص أذونات استخدام الهواتف الجوالة من جانب المعتقلين وإعادة اعتماد التفتيش الجسدي. ويعتبر أن الدلائل الظاهرة على التجذر اختفت تقريباً، بحيث بات أقل وضوحاً وازدادت صعوبة الكشف عنه في ظل استراتيجية التمويه التي بات يتبعها بعض الأصوليين مستعينين بـ «التقية» التي تتيحها بعض الفتاوى. لكن تقرير لاريفيه الذي ينتمي إلى المعارضة اليمينية ينتهي إلى خلاصات تحمل على التشكيك في النهج المتبع من جانب الحكم الاشتراكي حيال أوضاع السجون، ما يحمل على القول إن أفضل من تناول وتكلم عن هذا الملف هم الأشخاص الذين خبروا السجن من الداخل. من بين هؤلاء مراقب في سجن مدينة نيم (جنوب غربي فرنسا) الذي يشكك بإمكانية إدارة السجون على مواجهة ظاهرة التجذير في ظل الأوضاع والإمكانات الحالية. ويقول أن هناك في كل طبقة من طبقات سجن نيم ٨٠ معتقلاً بدلاً من ٤٠، وأن هناك ٣ سجناء في زنزانات لا تفوق مساحتها ٩ أمتار مربعة، وأن السجن يشكل الأرض الأكثر خصوبة للإسلاميين الذين يجدون أهدافاً سهلة في المعتقلين من شباب الضواحي الجانحين والغاضبين من مجتمع يعتبرون أنه أنكرهم. وإلى جانب ضيق المساحة في سجن نيم وسواه حيث من المتعذر وضع المعتقلين في زنزانات إفرادية، هناك نقص في تأهيل العاملين في السجون بحيث يتمكنون من التمييز بين المعتقل الذي يصلي من منطلق الإيمان والأصولي. وعلى غرار ما تضمنه تقرير لاريفيه يقول المراقب أنه باستثناء المعتقلين المعروفين بانتمائهم الأصولي، فإن الذين يتجذرون في السجن يخفون أي شيء يشير إلى تجذيرهم فيحجمون عن النداء للصلاة ولا يطلقون ذقونهم، وما إن يغلق باب زنزانتهم حتى يختلف سلوكهم ويمنعون المحتجزين الآخرين في الزنزانة من الاستماع إلى الموسقى مثلاً أو مشاهدة التلفزيون. و يقر المراقب بضرورة العودة إلى التفتيش الجسدي لمكافحة انتشار الهواتف الجوالة بين المعتقلين والعمل على الحؤول دون أي اتصال غير مراقب من داخل السجن مع الخارج. وخبر مراد بن شعلالي السجن من الداخل كسجين أمضى فيه ١٨ شهراً في فلوريميروجيس في فترة وجود فريد كواشي وكوليبالي نفسها، بعد أن كان أمضى ٣٠ شهراً في معتقل غوانتانامو. وكان بنشعلالي (٣٣ عاماً) توجه إلى أفغانستان عام ٢٠٠١، والتحق بمعسكر تدريب تابع لتنظيم «القاعدة»، حيث اعتقل من جانب القوات الأميركية وأودع في غوانتانامو. ويقول بنشعلالي الذي كرس نفسه منذ مغادرته السجن لتوعية الشباب في المدارس والنوادي الرياضية والجمعيات لخطر التجذير والجهاد، وأن المشكلة الأبرز في السجون الفرنسية هي النقص في المرشدين المسلمين. وخلال وجوده في فلوريميروجيس الذي يعد أحد أكبر السجون في أوروبا، كان في السجن مرشد واحد فقط، علماً أنه كان ينبغي أن يكون المرشدون ستة على الأقل. ويدرك بنشعلالي من خلال ما عايشه، أن الشباب المسلمين غالباً ما يلجأون إلى الدين في السجن بسبب صعوبة الظروف والتساؤلات حول المستقبل بعد السجن وهذا ما يحملهم على طرح أسئلتهم على من هم حولهم فيقعون على أشخاص غير مطلعين بالفعل على الدين ويعملون على تضليلهم وتجذيرهم. ويرى أنه لو كان هناك عدد أكبر من المرشدين المسلمين في السجون، لكان بوسع المعتقلين الشباب طرح الأسئلة عليهم والحصول على أجوبة ملائمة بدلاً من السقوط تحت تأثير أشخاص سيئي النوايا. ويقر بأن كثافة السجناء أيضاً يمكن أن تساهم في التجذير، لكن الأهم برأيه هو النقص في المرشدين الناجم عن عدم توافر إمكانات مادية لإعدادهم وتوظيفهم. لا يؤيد بنشعلالي فكرة عزل المعتقلين الأصوليين عن السجناء الآخرين، لأنه يعتبر أن العزل سيحملهم على ترسيخ معتقداتهم في ما بينهم ويحول دون أي إعادة نظر في مسارهم وما حكمه من أخطاء. وهذا بأي حال ما استمده من تجربة اعتقاله، حيث أدرك أنه ضل الطريق واختار لنفسه مساراً مختلفاً عما اختاره سجناء آخرون غادروا غوانتانامو والتحقوا على الفور بإحدى ساحات المعارك ومنهم أصبحوا رؤساء مجموعات جهادية. أما التوجه الرسمي في التعامل مع أوضاع السجون وفقاً لما أعلنه رئيس الحكومة مانوييل فالز عقب اعتداءات شبكة كواشي، فيعبر عن إدراك لأهمية موضوع المرشدين، ويقضي برفع عددهم من ١٨٠ حالياً إلى ٣٤٥ كم يقضي بإنشاء هيئة لمكافحة التجذير وفقاً لخطة لم تتضح تفاصيلها بعد. أما موضوع عزل المعتقلين الأصوليين للحؤول دون تأثيرهم السلبي في سواهم من معتقلين، فلم يحسم بعد بانتظار تقويم تجربة العزل المطبقة حالياً على حوالى ٢٣ معتقلاً أصولياً في أحد السجون الفرنسية.