بحكم سكني – داخل المملكة – في الحجاز ثم انتقالي خارج البلاد، لم تسمح لي الفرصة بالاقتراب من الملك سلمان بن عبدالعزيز في مشواره السياسي الطويل من إمارة الرياض لوزارة الدفاع وولاية العهد، ولم تتح – أيضا – التعرف على وزير دفاعه الأمير محمد بن سلمان. لكن الملك الجديد له علاقاته الواسعة بالصحافيين وبالمثقفين داخل السعودية وخارجها، لذلك تراكمت الحكايات في الذاكرة لتشكل انطباعا مبدئيا – قد يفتقر الدقة – عن حاكم المملكة المتوج. أولى الحكايات اللافتة عن سلمان، اتصاله بكاتب معروف مختلفا مع مقالة كتبها تناقش أبعاد القبيلة والهوية والمواطنة، لم يتراجع الكاتب عن رأيه بل تمسك به وشرح حيثياته، حينها أعرب سلمان عن احترامه لكاتب المقالة – رغم استمرار الاختلاف في وجهات النظر – لأنه لم يداهن ولم يساير. للبنان مكانة خاصة في قلب سلمان لذا أكثر التردد عليه. تعرض صديقه الكاتب المعروف إميل خوري لمرض عضال انتهى إلى غيبوبة لا يرجى برؤها، اتجه سلمان من الرياض إلى بيروت ليزور صديقه، قال له أحد الكتاب اللبنانيين لماذا تزوره وهو لن يشعر ولن يعرف، رد عليه سلمان وما معنى الصداقة إذن؟!. وعلى ذكر الأصدقاء لا ينسى سلمان صديقه القديم وطبيبه الخاص عبدالله الراسي الذي أصبح – لاحقا – وزير خارجية لبنان. في كتابه عن المسيحيين العرب، قال المؤرخ اللبناني نقولا زيادة أنه كتب مبحثه بطلب من سلمان وأنه أجيز على ذلك. حين أجرى الناشط السياسي محمد سعيد طيب مقابلة في قناة (الحرة) شارحا رؤيته للإصلاح، هاتفه سلمان مؤيدا، استأذن (الطيب) في نشر تفاصيل المكالمة فقبل الأمير، وكان النشر في صحيفة (مصدر) الإلكترونية. يروي (الطيب) في كتاب (السجين 32) أن الأمير سلمان حاول معالجة مشكلة المعتقلين السياسيين في المملكة إبان عهد الملك فيصل لكن جهوده لم تنجح. كانت محطة ال بي سي الفضائية تتلقى بين حين وآخر رسائل من أمير الرياض يعلق من خلالها على مضامين نشرات الأخبار وبعض البرامج، وقد قرأت بنفسي – بحكم العمل – إحدى رسائله المطولة. هذا التصرف ليس مستغربا من سلمان، فهو المالك الفعلي لصحيفة (الشرق الأوسط) وشقيقاتها، وهو الحريص على البقاء متصلا مع مصادر الخبر حتى في يخته الخاص. والمتابع للصحافة العربية يتذكر مقالات سلمان التي خطها تفاعلا مع كتابات آخرين، كرده على صالح الشيحي وبصيرة الداود ورده على الشاعرة سعاد الصباح ومداخلته الهاتفية مع قناة (المستقلة). وتتواتر القصص عن تواصله الدائم بالكتاب لتصحيح معلومة أو المناقشة أو تقديم الدعم والنصيحة. يمتاز الأمير سلمان بشخصية جدية، عرف بعمادة الأسرة الحاكمة. عانى من التأتأة في صغره، فنصحه الأطباء بأن يواظب على هوايته، القراءات المطولة في التاريخ وفي الأنساب لكن بصوت مرتفع، فعزز ذلك مداركه وعالج مشكلته في نفس الوقت، والملاحظ – إلى اليوم – أن سلمان يتحدث – أحيانا – بسرعة هادرة، لذا وجب على المستمع أن يركز جيدا. ومن قصصه مع الكتب إعجابه البالغ بمذكرات إبراهيم الحسون التي صدرت في ثلاثة مجلدات، وإعجابه – مؤخرا – بذكريات الامير محمد الفيصل والوزير عبدالله بلخير التي سجلها خالد باطرفي. لسلمان شجاعته المشهودة في اتخاذ القرار، ومع ذلك لا يدفعه الإقدام إلى تجاوز صلاحياته، ومن أمثلة ذلك قيام بعض السيدات برفع عريضة له عن أوضاع المرأة السعودية، ولأنه كان أميرا للرياض حينها قال لصاحبات العريضة: هذا الموضوع ليس في صلاحيتي، اتجهوا للملك ولولي العهد. والآن بعد أن أصبح ملكا يجب أن نترقب جسارة في اقتحام الملفات الساخنة وأن ننتظر صاحب قرار ينفذ قناعته من دون اعتبارمعيق لردود الفعل. يتشابه سلمان مع سلفه في ثلاث سمات: الأولى، الصرامة في وجه المشروع الإيراني في المنطقة وما يمثله، وبإمكان المهتم مراجعة اتصاله المنشور بالشيخ يوسف القرضاوي بعد تغير موقفه من (حزب الله) موافقا علماء السعودية، وسنشهد صرامة مماثلة ضد التيارات المتاجرة بالدين بسبب تدين سلمان وولعه بالاستقرار. الثانية، الحرص على وحدة الصف الخليجي، فهندسة الملفات العائلية بين الأسر الخليجية الحاكمة حمل سلمان مسؤوليتها حقبة من الزمن، ومن أدلة ذلك توليه ملف الشطط القطري في عهد الشيخ حمد، ووساطته في أزمة الخلافة الكويتية بعد وفاة الشيخ جابر الصباح. أما الثالثة، فهي الموقف السلبي من إسرائيل، وقد تم تكليف سلمان – من بعض الملوك السابقين – بالإشراف على الملف الفلسطيني. هناك شبه ملفت بين شخصية الملك سلمان وبين سلفه الملك عبدالله، تشكل المشاعر دفعة واحدة مع فرصة يتيمة، فإذا أخذ سلمان موقفا سلبيا من طرف، فهناك فرصة واحدة لذلك الطرف من أجل تحسين موقفه إذا لم يقتنصها خسر الصلة نهائيا. أما لو أخذ سلمان موقفا إيجابيا من طرف آخر وأثبت الجدارة فلن يخذله سلمان أبدا. ولعلنا نضرب المثل بالملك عبدالله في مواقفه من نوري المالكي في العراق ومن بشار الأسد في سوريا، تعامل عبدالله بإيجابية مع نوري وبشار، وحين خذلاه منحهما فرصا محدودة لم يستثمراها فألغتهما المملكة. السياسة الخارجية للسعودية لا تتغير – عادة – بتغير الملوك خصوصا في بعدها الاستراتيجي، لذلك فالتخرصات التي تتحدث عن تخلي سلمان عن مصر وتباعده عن الإمارات مرجعها الوهم، لكن تنفيذ السياسة سيصطبغ بشخصية الملك الجديد. وعلى صعيد السياسة الداخلية، فالمتوقع أن تميل البلاد إلى الحرص والمحافظة والحزم الأمني مع تركيز أكبر على تحسين الخدمات والأنظمة. فور توليه الحكم، أصدر الملك سلمان عدة قرارات: تنفيذ قرار الملك عبدالله في تعيين الأمير مقرن وليا للعهد، ترجمة رغبة عبدالله في انتقال الحكم إلى أحفاد الملك عبدالعزيز بانتخاب الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد عبر هيئة البيعة، إعفاء رئيس الديوان الملكي الشيخ خالد التويجري من منصبه، ترقية حمد السويلم في ديوان ولي العهد من موقع الرجل الثاني إلى رئاسة الديوان، ثم تعيين الأمير محمد بن سلمان وزيرا للدفاع ووزير دولة ورئيس الديوان الملكي. الملاحظ في هذه القرارات السرعة الحاسمة في اتخاذها، فالقرارات أعلنت قبل دفن الملك الراحل، ما تم تفسيره طمأنة للسعوديين وللعالم باستقرار الدولة ومتانة الحكم. هذه السرعة يجب أن تكون موضع درس، فالملك عبدالله عين رئيس ديوانه خالد التويجري في 10 أكتوبر 2005 أي بعد شهرين من توليه الحكم. بعد وفاة الامير سلطان في 22 أكتوبر 2011 عين الملك عبدالله الأمير نايف وليا للعهد في 28 أكتوبر، أي بعد وصول جثمان سلطان من الخارج واجتماع هيئة البيعة وانقضاء أيام العزاء. توفي الأمير نايف في 16 يونيو 2012 وأسرع الملك عبدالله في تعيين الأمير سلمان وليا للعهد بعد يومين من الوفاة، ثم عين عبدالله في العام الأخير من حكمه الامير مقرن وليا لولي العهد (عين الملك فهد الأمير سلطان نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء بعد أيام العزاء في الملك خالد). إذن فالملك سلمان، اتخذ في ساعات قرارات اتخذها أسلافه في أيام وأشهر وسنوات، وهي زاوية ملفتة. أما في مضمون القرارات، فنلاحظ أن الأمير مقرن تسلم ولاية العهد ومنصب النائب الأول لرئيس الوزراء من دون حقيبة وزارية سيادية – وفق العرف السائد – ليجتمع في الحال مع الملك خالد يوم كان وليا للعهد مع فارق اعتلال الصحة عند خالد. إننا أمام حالة لا تقارن بفهد بن عبدالعزيز زمن ولايته للعهد لأنه فوض من الملك بإدارة شؤون الدولة، ولا يمكن مقارنتها بسعود بن عبدالعزيز الذي جمع ولاية العهد مع رئاسة الوزراء. رئاسة ديوان ولي العهد ذهبت زمن الأمير نايف إلى ابنه سعود وآلت زمن سلمان إلى ابنه محمد، حتى بدا بأن ذلك سيتكرس عرفا، لكن الملك عين حمد السويلم (نائب الأمير محمد في ديوان ولي العهد) رئيسا لديوان الأمير مقرن. مقرن بن عبدالعزيز، له تجربة إدارية ناجحة في إمارة حائل ثم إمارة المدينة، من شواهدها السمعة العطرة التي تركها في المنطقتين. تولى رئاسة المخابرات في عهد الملك عبدالله ليشارك في ملف الأمن وتشعبات السياسة الخارجية، كان أول رئيس للمخابرات يصنع الانفتاح بين المجتمع وبين جهازه إضافة إلى التحديث التقني، بعدها تعين مبعوثا خاصا للملك ثم وليا لولي العهد. تتميز شخصيته بالتواضع وطيبة القلب وسعة الاطلاع ودقة المواعيد والانضباط، متابع لعلم الإدارة وتطوراته الإلكترونية، يحب أن يحاط بالخبراء وبالمختصين، يعشق الزراعة وعلم الفلك عن معرفة وممارسة. له تصريحات مهمة، منها البنوك السعودية تأخذ أكثر مما تعطي مما يشير إلى اهتمامه بالبسطاء وبالفقراء وبالهموم اليومية للمواطن العادي، ومن تصريحاته أيضا لو تحقق عشر ما في ذهن الملك عبدالله لأصبحت السعودية دولة عظمى مما يدل على تشربه التام وولائه المطلق للمشروع الإصلاحي للعاهل الراحل. تولي الأمير محمد بن نايف، بطل الحرب على الإرهاب، منصب ولي ولي العهد لا غبار عليه، فهو يتميز بالذكاء وبدماثة الخلق وحسن الاستماع مع الجلد والكفاءة في العمل، الخبرة التي اكتسبها من خلال دراسته وعمله أهلته ليصبح رجل دولة، شعبيته عريضة داخل الأسرة الحاكمة، علاقاته الدولية واضحة خصوصا مع العواصم الكبرى في العالم. عين الملك سلمان ابنه الأمير محمد مستشارا خاصا له ورئيسا للديوان الملكي ووزيرا للدفاع، وهي سابقة سعودية ربما تكون – أيضا – عربية ودولية وتاريخية في إسناد مسؤولية رئاسة الديوان ووزارة الدفاع لشخص واحد وعمره 34 سنة. المكانة التي يحملها محمد في قلب والده معروفة، فهو ظل والده الذي ينفذ التوجيهات ويتعلم الخبرة، تلك العلاقة الملتحمة بين الابن والأب – التي ربما جعلت منصب نائب وزير الدفاع زمن أبيه مقعدا ساخنا لم يتحمل في فترة وجيزة الأمير خالد بن سلطان والأمير فهد بن عبدالله بن محمد والأمير سلمان بن سلطان والأمير خالد بن بندر الذي أصبح رئيسا للمخابرات – تتضح من الوظائف التي شغلها محمد في المواقع التي يوليها سلمان اهتمامه كعضوية لجنة تطوير الدرعية والرئاسة التنفيذية لجمعية سلمان للإسكان الخيري ومستشارا خاصا لوالده في دارة الملك عبدالعزيز وفي إمارة الرياض. وحين أصبح سلمان وليا للعهد ووزيرا للدفاع تولى ابنه محمد الإشراف على مكتبه الخاص ثم الإشراف على مكتبه في الوزارة، وتعين رئيسا لديوان ولي العهد ومستشارا خاصا لوالده. عين الملك عبدالله الأمير محمد بن سلمان وزير دولة وعضو مجلس الوزراء، وما لفت النظر في العهد الجديد، أن قرار تعيين الأمير محمد رئيسا للديوان الملكي أكد على استمراره وزير دولة وعضو مجلس الوزراء، مع أن تعيينه وزيرا للدفاع يعني حكما عضويته في المجلس، إضافة إلى أن لقب وزير دولة لا يعطى إلا لوزير بلا حقيبة. المعلومات المتوفرة عن شخصية محمد شحيحة، باسثناء دراسته للقانون التي توجت بعمله مستشارا في هيئة الخبراء التابعة لمجلس الوزراء، فضلا عن نشاطه الخيري واهتمامه بالصيد وبالغطس. ينسب إليه الفضل في الموافقة على دعوة الصحف الإلكترونية – لأول مرة وفق الشائع – لمرافقة والده حين كان وليا للعهد في زياراته الخارجية. المأمول أن يدعم الأمير محمد حضور الشباب في الدولة وفي صناعة القرار وأن تكون ثقة والده رمزا ممنهجا لذلك. لو راقب الملك مواقع التواصل الاجتماعي بعد وفاة عبدالله، لوجد المغرد عاصم صالح يقول بأن عهد الفقيد امتاز بالتشخيص الدقيق والسليم وبدايات العلاج، والمنتظر أن يضع الملك الجديد كل ثقله لإتمام التداوي والبناء للغد. من جهته كتب الأديب عبدالله ثابت أبلغ تقدير للملك عبدالله هو مواصلة مشروع الإصلاح في التعليم والقضاء والتنمية والحريات والحقوق ومواجهة التطرف. وعن نفسي قلت أبايع القيادة الجديدة على منهج الملك عبدالله ومشروعه الإصلاحي. مؤكد أن سلمان يتفهم دقة الحكم بعد شخصية تتمتع بشعبية جارفة. الخصوصية الإدارية للملك سلمان في حكمه متأثرة بعاملين. العامل الأول مهني صرف، يكمن في مكوثه عقودا كأمير للرياض، اشتهر في تلك المرحلة بالحزم وبقوة الشخصية وبدقة المواعيد وبالعمل لساعات طوال حلا لمشاكل الناس، إضافة إلى إنجازاته المشهودة في القفزات العمرانية والخدماتية. كتب سلمان في مجلة (التضامن) التي يملكها الصحافي اللبناني فؤاد مطر عام 1986 مقالة قال فيها (بتصرف) بالنسبة لي فإن الرياض هي الوطن، التاريخ، الماضي، الحاضر، العمل، المستقبل، الأمل. عندما أكون خارج الرياض فأنا أعيش معها ولها. وعندما أغيب عنها أظل أتخيل كل شؤونها، فهي الرياض مدينتي وعاصمة المملكة الحبيبة، واختتم حروفه بنصه كل قرية ومدينة في بلادي عزيزة وغالية ولها في نفسي أسمى موقع وأرفع مكانة. العامل الثاني إنساني خالص نقش رواسبه الدامعة في شخصية الملك رغم الصبر والإيمان، فهذا الرجل فقد أغلى أحبابه، ابنيه فهد وأحمد وهما في أوج الشباب، كما أنه لازم شقيقه الأمير سلطان في رحلة مرضه القاسية والمؤلمة إلى أن وافته المنية، وفجع – فجأة – بوفاة شقيقه الأمير نايف بلا مقدمات. تخيل أن الموت يطوف حولك متخطفا جواهر روحك، ينكزك في الكتف محلقا إلى مستوى رأسك، يرمقك بابتسامة صفراء ثم يختفي. بالتزامن مع العرب اللندنية