عبر نهاية مأسوية، واستهلال سردي يضع متلقّيه في قلب الحدث الروائي مباشرة، تتحرّك رواية «خريف العصافير» (منشورات باب الحكمة، تطوان) للكاتب المغربي خالد أقلعي، مشغولة بصوغ جمالي مختلف لواقع مغربي/ عربي معقد ومتشابك، مسكون بالقمع والتطرف، وتحالف الرجعية مع قوى الاستعمار، والتكريس لمقولات ماضوية، وبما يفضي إلى تسييد الجهل والقهر والصيغة الاستهلاكية. يوظف الكاتب الاستهلال السردي، فيبدو بمثابة تقديم للنص، وفيه يحدد أزمنته وأمكنته بدقة (18 مايو 1994/ فندق النخيل)، ويشير إلى شخصيته المركزية، جعفر، وإلى مأساته ومأزقه في آن. فجعفر المفخخ والمكلّف من أمير جماعته الإرهابية تفجير الفندق (مكان الفعل السردي)، لا يعبأ بتفجير نفسه طمعاً في شهادة متوهمة، جراء وعي بائس بالمعتقد الديني، ربما كشفت عنه في ما بعد الحوارات السردية الدالة التي دارت بينه وبين «سي علال»؛ زوج أمه، والكاشفة عن تمايز حقيقي ما بين رؤيتين للعالم. وبما يعني أيضاً أن الحوار هنا بات جزءاً أصيلاً من الرؤية السردية للنص. يحضر المجاز منذ البداية: «هذا مساء ثمل مرهق/ الليل في شيخوخته والناس نيام»، ويبرز الصراع النفسي الشهير والمسمى «صراع الإقدام/ الإحجام» داخل سيكولوجية الشخصية المركزية جعفر. هذا التردد الذي يحسمه الإرهابي الآخر مفضل، حين يفجر المكان. وما بين استحضار الماضي والعودة إلى اللحظة الراهنة (خطّ القص الرئيسي)، تتحرّك الرواية في مساحات إنسانية ضافية، يتجادل فيها السياسي والجمالي، بحيث يحيل الكاتب على السياق العام بتأزماته وإشكالياته، ويشير إلى التركيبة الاجتماعية التي أفرزت شخصاً مثل جعفر، وأحالته من شاب محبّ للغناء، يهوى المطربة الرائقة ماجدة الرومي، ومفتون بالصبايا ومولع بهن، إلى شخص آخر مسكون بأمراض الظلم الاجتماعي الناشئة من فسادات هائلة تغتال في البشر أنبل ما فيهم، أعني توقهم إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. يُفعِّل الكاتب آلية التذكر في روايته، فيستعيد جعفر «ماخور الداهي»، ومعه أمه «مليكة»، ومن قبلهما معمل الحاج عشيبة، وعبدالنعيم وساقي بديعة السمينتين، وقد أصبحتا من لوازم المكان ومظاهره طالما وجد عبد النعيم المخادع. شخوص مختلفون إذن يحملون زخماً خاصاً داخل الرواية، ويكشفون عن تكوينات فكرية واجتماعية مختلفة، تتجاوز ذواتهم لتشير إلى ذات جمعية مأزومة وغارقة في تناقضات فجة في آن. حكايات مستعادة يقدم الكاتب حكايته على دفعات، وفي كل مرة يُقدِم فيها جعفر على تفجير نفسه يستعيد طرفاً من حياته السابقة عبر صورة/ ذكرى تعيده إلى ما كان، ليتقاطع الحاضر مع الماضي. تعتمد «خريف العصافير» على آلية التوالد الحكائي حيث تتناسل الحكايات بعضها من بعض وتتفرع. ويسرد الكاتب روايته عبر ضمائر الحكي الثلاثة: الغائب والمتكلم والمخاطب، ومن ثم نصبح أمام تنويعات حكائية، تكشف عن تباينات العالم المحكي عنه وتشابكاته أيضاً. يحكي جعفر؛ فيستحضر نساءه الجميلات المقموعات. تحضر «ذكرى» بوصفها منافسا لـ «فنة» في حبه، وتتداخل الأزمنة، ومن ثم تتقاطع الحكايات، ويبقى الرابط التقني المركزي بينها كامناً في جعفر ذاته، بمآزقه وأزمنته المتناقضة ونسائه أيضاً. يقول الكاتب في صفحة 11 على سبيل المثل، وفي موضعين مختلفين بينهما فجوة زمنية تعد بنتاً لترحال قلق في حياة الراوي / البطل: «أدركت من مداعبة فنة أنها تعاتبني، كيف أنني، منذ ثلاثة أيام، لا أهذي الا باسم ذكرى...»، و»عندما بلغت السادسة من عمري تزوج أبي مرة ثانية». تطلّ الإحالة الأولى للعنوان عبر الحضور الواعد للدالّ المركزي فيه «العصافير»، والتي تبدو متوترة وكأن خريفها يؤذن بالرحيل حقاً، مثلما يأتي حضور الدال الآخر في العنوان «الخريف» منبئاً عن سياق نفسي ضاغط على السارد/ البطل في الفصل الثاني. ففيه تشيخ جدته تماماً، ويصبح رحيله عن المكان قسرياً بعد دسائس زوجة أبيه، العقربة». وهي تحضر أيضاً عبر علاقة الإضافة الماثلة في الجملة السردية الواردة في صفحة 26 «وبدأ يعد نفسه لخريف الشيخوخة وعللها»، ويعود الضمير هنا على «سي علال» الذي شارف الخمسين ولم يكن قد تزوج بعد، وجعفر وسي علال يعبران عن رؤيتين متمايزتين للعالم وينبئان عن تنويعات مختلفة لسياق عام تائه ومرتبك. مسارات الحياة ثمة إخفاق يظلّل الحكاية، ويتجلى هنا على مسارات مختلفة: حياتية/ رؤيوية/ عاطفية. فجعفر فقد كل شيء، إحساسه بالأمان بعدما باعه المناضل المزيّف مراد الدويب، وتحالف مع صاحب رأس المال، سميّه وشبيهه روحاً ورسماً، مراد عشيبة. وبالاتفاق مع القواد عبد النعيم؛ صهر الحاج عشيبة، وبما يفضي إلى سجن جعفر بعدما تم اتهامه بسرقة «معرض الأمان». ففي معرض الأمان للسلع/ مكان الفعل السردي يفتقد البطل المركزي الأمان ويروح ضحية للخيانة والغدر. أما الإخفاق على المسار الرؤيوي، فيتجلي عبر الاعتقاد الكذوب في مقولات خارج الزمن، بنت سياق ماضوي، وتصورات تكفيرية ترى في المجتمع الحديث مجتمعاً للجاهلية. وبما يعني أن يصبح التطرّف الديني هنا استحضاراً تعساً لرؤى رجعية ومتخلّفة حقاً. أما الإخفاق على المسار العاطفي، فيبدو عبر النساء المأزومات، بدءاً من ذكرى، التي صارت ذكرى حقاً، وصولاً إلى فنة، التي شهدت حياتها الاجتماعية عدداً من التحوّلات العاصفة، وحينما تعثر على ضالتها (جعفر) تجد أنه طفل بذاكرة بيضاء وعقل لا ينمو وروح كستها الحيرة والألم بعدما تمّ استلابها وسحقها في ظل مناخ بالغ القسوة، وتصورات ظلامية خارج التاريخ. الإخفاق أيضاً يتسرّب إلى الشخوص الهامشيين؛ أولئك الذين يحتفي بهم الكاتب كثيراً، فلا تكاد تنساهم على رغم حضورهم الخافت على مستوى الحيّز الكمّي للسرد، فتلوح السعديّة جيجي، خالة البطل، والتي لا تستطيع استقباله في بيتها رغم المحبة العارمة التي تحملها له، لأن ثمة زوجاً متسلطاً وانتهازياً يقف لها بالمرصاد. يلوح أيضاً حارس المدرسة اللص، «زنيفح»، والقوادة، «طامو»، و»الداهي»... شخوص تنتمي إلى عالم ما بعد القاع، هامش معبأ بانحطاط لا حد له ولا مثيل. تبدو «فنة» مستلبة أمام ماضيها، فحينما يطلب منها الطبيب الذي يعالج جعفر أن تحكي له عما يبهج فقط، تكتشف أن لحظات البهجة قليلة، وأن الحياة لم تكن سوى مزيد من القسوة والعتامة، بدءاً من افتضاض بكارتها، مروراً باستجابتها الناجمة عن كراهية مطلقة لواقعها الاجتماعي. تتبدّى السخرية في النص بوصفها آلية لإنتاج المعنى وتوليده، مثل الموقف السردي الذي يظهر فيه «مراد عشيبة» المشغول بكنز الأموال، وهو يصلّي في جماعة، ولما وقف الإمام من الركوع منادياّ «سمع الله لمن حمد»، ردّ عشيبة بصوت مسموع على غير إرادة منه «خمسة أطنان ونصف». (ص 54). في النصّ ثمة ارتباكات لغوية، من جهة، واستنطاق للشخصية الروائية من جهة ثانية، «سي علال»، والذي لم يستطع في النهاية - على رغم عذوبته - أن يحمل تصوراً راديكالياً في مقابل المتطرّف «جعفر». في رواية جد مختلفة لكاتب حقيقي، تبدو النهاية عند خالد أقلعي فنية بامتياز، حاوية نفساّ شجياّ، فجعفر بعدما فقد ذاكرته ووعيه تقريباً يمشي الهوينى على حافة السطح مقلداً العصافير، منشداً أغنية حبيبته «فنة»: «يا عصفوري الجريح، كسّر حلمك عناد الريح»، بينما ترقبه مليكة وفنة، وهما مسكونتان بخوف لا ينتهي، وحسرة تكفي نصف العالم.