ثمة كتب تأسيسية في فكرنا العربي الحديث والمعاصر شكّلت منعطفات مركزية في توجهاته وتطلعاته طارحة في داخله أفكاراً ومبادئ غير معهودة ويمكن أن توصف بالجذرية أو الانقلابية. بين هذه الكتب يمكن ان ندرج «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي و»الساق على الساق» لأحمد فارس الشدياق و»غابة الحق» لفرنسيس المراش و»المدن الثلاث» لفرح انطون و»طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي و»النبي» لجبران خليل جبران. الا ان رواية «غابة الحق» للمراش تبقى في طليعة هذه الكتب اذ هي على حد تعبير ناصيف نصار من الأحداث الأدبية الفاصلة في الثقافة العربية الحديثة، وأهميتها تكمن في أهليتها للمقارنة بنظيراتها من الروايات الفلسفية في الآداب العالمية، وفي كونها اسست لخط متنامٍ في الأدب العربي الحديث تنتمي اليه آثار متنوعة. يتفق انطون غطاس كرم مع ناصيف نصار في النظر الى هذه الرواية، ففيها كما يقول «نلمح جماً من البذور المحورية التي شغلت ادباء العرب بعد المراش، حتى ان ما دار على اقلام هؤلاء الأدباء حول العبودية والحرية والمرأة والطبيعة والحب والعدالة، وما تبنوه من مبادئ الثورة الفرنسية، واعتمدوه من النزعة العلمية التي تخللت ادبهم، هي كلها من خصائص هذا الكتاب، كأنه منطلق لها». اختلف الباحثون في شأن تأليف «غابة الحق» وتاريخ طباعتها ومكانها، فذكر سامي الكيالي ان المراش ألفها في باريس ورأى فان ديك انها طبعت في بيروت عام 1881 وذهب انطون غطاس كرم الى ان مؤلفها قد حبّرها او حبّر بعضها على سبيل اليقين مدة اقامته في الحاضرة الفرنسية. لكن لويس شيخو وفيليب طرازي يؤكدان طباعتها في حلب عام 1865، وفي حوزتي نسخة من هذه الطبعة المطبوعة في المطبعة المارونية في حلب، وقبل أن يسافر المراش الى باريس عام 1866. الحقيقة ان الرواية لاقت رواجاً واسعاً منذ صدورها فطبعت في مصر عامي 1880 و1922 وفي بيروت عام 1881 وفي لندن عام 1989 وفي دمشق عام 2001. في رأينا ان اهمية «غابة الحق» انما تكمن في جدة اطروحاتها في الفكر العربي الحديث وراهنية هذه الأطروحات بعد قرن ونصف القرن على صدورها، فالمراش لم يهدف من كتابتها الى ترفيه القارئ وتسليته، بل كان همه المستقبل الأنساني وبناء الدولة المدنية العادلة، اذ عمد الى اعادة صوغ وإنتاج أفكار روسو في الحق الطبيعي والمساواة والحرية الأدبية والتعاقدية في الفكر العربي على نحو مترابط في حين ان هذه الصياغة تكاد تكون مفقودة في الأدب التنويري العربي. الأمر الذي يؤكده تبني المراش مقولة روسو في «العقد الاجتماعي» في ان الخضوع لدولة التمدن والصلاح هو عين الحرية. وفي هذه الرواية تصدر لأول مرة في الفكر العربي ادانة مطلقة للعبودية على اساس الحق الطبيعي الذي يؤكد حرية الإنسان الأدبية باعتبارها حقاً طبيعياً لا يمكن اغتصابه او التنازل عنه. حين طرح المراش هذه المسألة في العمق كانت الحرب الأهلية الأميركية لا تزال مستعرة ولم يكن قد مضى على إلغاء الرق في المستعمرات الفرنسية اكثر من سبع عشرة سنة، وقد جاءت هذه الإدانة قبل اثنتي عشرة سنة من إلغاء الرق في مصر وقبل تسعين سنة من إلغائه رسمياً في السعودية. وفي «غابة الحق» طرح المراش لأول مرة في الفكر العربي الحديث مشكلة الفئات البائسة في المجتمع، فكان أول من أقر بدور هذه الفئات السياسي والاجتماعي، حيث رأى اليها، لا كمساكين يستحقون الشفقة، بل كأصحاب حقوق يجب ان يكون لهم صوت في قاعات السياسة. فالفقراء كما وصفهم في روايته هم «الجانب الأكبر والأهم» وهم «الآلة الموصلة» وهم مصدر حياة البشر ورفاههم، وسبب بقاء الإنسانية واستمرارها وصمودها أمام الأخطار. ومن هنا جاء تنديده بالتفاوت الطبقي المجحف والظالم بقوله «هل يسوّغ لأرباب السياسة أن يقبلوا وقوع هذا التباين ... أفلا يخافون من وثوب التسعة والتسعين وفرط عقد الجمعية». إزاء التمييز في العالم العربي بين المواطنين تبعاً لانتماءاتهم الدينية والطائفية والسياسية، التمييز الذي لا يزال صارخاً بعد قرن ونصف قرن على «غابة الحق» يحضر قول المراش في هذه الرواية «ان اعظم المقومات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساوية على كل أبنائها من دون أدنى امتياز بين الأشخاص أو تفريق بين الأحوال». ولا يزال راهناً موقف المراش في دعوته في «غابة الحق» إلى «محبة وطنية منزهة عن أغراض الدين» وإلى التوفيق بين العلم والإيمان، وإلى إمكان التوافق بين التديّن والعلمانية، بينما تطرح الحركات الأصولية المعاصرة تفسيرات للدين ترفض العقل والمدنية وتنكر التعددية والحوار، وتربط السياسي بالديني، زاعمة التكلم باسم عقل اعلى يمتلك وحده الأدوات والمنهجيات وحق تفسير الكتب المقدسة. ولا تزال راهنة دعوة المراش في «غابة الحق» الى تثقيف العقل والتشجيع على التقدم في العلوم والفنون وإنشاء المدارس «كي لا يبقى الجنس العربي موضع احتقار وازدراء بين الأمم» بينما تشير تقارير التنمية البشرية إلى أمية عربية مرتفعة وإلى تردي معدل الابتكارات العلمية والثقافية في العالم العربي. ولا تزال راهنة إدانة المراش كل مظاهر العنف والتمييز ضد المرأة، فقد اعتبرها «الجزء الأهم في الإنسانية والمساعد العظيم لقيام الجنس البشري والينبوع الأول لتغذية الحياة في زمن قصورها». وبينما يذكر تقرير التنمية البشرية 2014 أن المرأة العربية هي الأقل مشاركة في القوة العاملة والأقل دخلاً في العالم قياساً إلى الرجل، وفي حين تتعرض النساء العربيات للعنف وصولاً الى القتل، حتى في لبنان موطن بطرس البستاني وسورية موطن المراش، يحضر قول المراش في «غابة الحق»: «هيهات ان يحسبوا متمدنين كل اولئك الذين يشترعون إذلال النساء وتحقيرهن وإهانتهن وربما ضربهن أيضاً بناء على ان هذا الجنس ساقط ولا يستحق ادنى اعتبار». هذه المضامين الكبرى والإشارات الغنية تجعل من رواية «غابة الحق» التي يصنفها أنيس المقدسي الرواية الاجتماعية الفلسفية الأولى في فكرنا العربي، بياناً ليبرالياً أواسط القرن التاسع عشر لا يزال يختزن كثيراً من المعاني والدلالات في وقت يتعرّض فيه المشروع النهضوي العربي لمحنة حقيقية.