هذا المقال بقلم هدى رؤوف،باحثة سياسية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN . انطلقت تونس في مسارها نحو التحول الديمقراطي، لكننا مازلنا في تلك الحلقة المفرغة من الدائرية وعدم الحسم لنظل نجادل حتى الآن هل هي ثورة أم مظاهرات أم مؤامرة وهل فشلت أم نجحت. المؤكد هو أن يناير مثلت لحظة تاريخية جعلتها تمثل ما يعرف في أدبيات العلوم السياسية بنوافذ السياسة، وتعنى توافر لحظة تشكل فرصة لإدخال إصلاحات على السياسة الداخلية والخارجية. لا ظل من ريب أن 25 يناير مثلت كسر لحالة جمود شاملة عاشتها مصر على مدار الثلاثين عاما الماضية. داخليا... حقيقة هناك حالة إحباط لدى قطاع من المصريين نتيجة تأثر حياتهم اليومية بفعل الاضطرابات التي عاشتها البلاد وتأخر ترجمة شعاراتها من حرية وعدالة اجتماعية لأجندة عمل حقيقية يستشعرونها، ما جعل البعض يحن لحالة الجمود في الماضي المسماة استقرارا. إن 25 يناير وان تعثرت لانحراف مسارها نتيجة لدور الإخوان بدعم بقية التيار الإسلام السياسي والذي كان عن حق أحد أطراف الثورة المضادة، إلا أن لها من الإنجازات ما يمكن البناء عليه واستكماله. ما من منكر لفعل الثورة الأولى في عقل المواطن المصري وزرع بذور الإحساس بالقدرة على التغيير التي سهلت خروجه مرة ثانية في 30 يونيو. أصبحت مفردات التغيير والحقوق والعدالة حاضرة في ذهن كلا من المواطن والسياسي على السواء. لم تعد أدوات النضال السلمي والاحتجاج قاصرة على القوى المسيسة. ويمكن الاستدلال من مشهد جنازة الطفل عمر بائع البطاطا وموقف الباعة الجائلين في مواجهة الحكومة حال عدم التزامها بنقلهم لسوق وابور الثلج. لقد تحرك الجمود حتى في عقل الرافضين ليناير. الوقت هو العامل الرئيسي لتحويل ذلك التغيير في العقل الجمعي المصري إلى ممارسة وثقافة راسخة على أرض الواقع. يناير أسقطت حالة تمديد البقاء في السلطة وما ارتبط به من مشروع التوريث، والسيطرة على مقدرات الدولة وزواج السلطة والمال. ايضا أثبتت التجربة استمرار أزمة الأحزاب السياسية التي سقط مبارك كمعوق لها ولم تفعل من وجودها لتخاطب احتياجات المواطن الحقيقية. يغيب عن الأحزاب التحرك باعتبارهم فواعل في العملية السياسية التي اتاحتها لهم 25 يناير. كما منحت يناير الفرصة لاختبار الإخوان المسلمين وكشف زيف مشروعهم السياسي، كما كشفت تناقضات الخطاب والممارسة لدى الإسلاميين بعد ممارسة الحكم. إن أهم مكاسب 25 يناير عن حق، هو اعتبار الرأي العام مكون في معادلة صنع القرار السياسي داخليا وخارجيا. فهناك اهتمام بأن يستشعر المواطن على المدى القصير تأثيرات السياسات الحكومية. كما انه في الوقت الذي فشلت فيه الأحزاب في اجتذاب المواطنين للعمل الحزبي، مارس هؤلاء المواطنين حقهم في المشاركة السياسية بعد عزوفهم 30 عاما. نزل المصريون في كل الاستحقاقات السياسية منذ يناير، لإدراكهم أهميتهم في التغيير. حتى على مستوى السياسة الخارجية أصبح يعتد بالرأي العام فيما يتعلق بالعلاقات مع الدول الأخرى وخير دليل خروج المظاهرات واقتحام السفارة الإسرائيلية في أعقاب قتل ثمانية جنود مصريين في 2011. فتحت يناير الباب لخروج المصريين على زواج المال بالسلطة وللخروج الثاني على زواج الدين والسياسة ومحاولة اللعب في الهوية. خارجيا.. ما من شك، حولَ إسهام الأوضاع الجغرافية والتاريخية والثقافية والديمغرافية لمصر فى جعلها لاعباً رئيسياً في محيطها العربي والإقليمي. أسهمت هذه الأوضاع في تعدد دوائر الحركة للسياسة الخارجية المصرية. كل ذلك انعكس في الاهتمام الإقليمي والدولي بما يجري داخلها. من هنا كانت 25 يناير إحدى نوافذ السياسة التي خلقت فرصة لمتخذي القرار فيما بعد لانتهاج سياسة خارجية مصرية جديدة تتلاءم وروح الثورة والخروج على سياسة مبارك التي ارتبطت بمصالح ضيقة همشت الدور المصري وجعلته في أدنى حدوده لصالح تنامى دور القوى غير العربية في المنطقة. ثمة تغيير تنبأ به كثيرون في البداية مع تولى الدكتور نبيل العربي وزارة الخارجية. ومجموعة من التصريحات والتحركات جعلت الجميع يرى أن تغيرا قد بدأ يطرأ عليها وهو ما بدا على عدد من الأحداث وقتها كالمصالحة الفلسطينية والسماح بمرور سفينتين إيرانيتين في قناة السويس. ومع مجيء الإخوان للحكم، أثبتت براجماتيتهم ان هناك إطار عام للسياسة الخارجية المصرية حافظوا عليه ولم ينقلبوا على ما كان مثار انتقاد لسياسات مبارك في علاقته بإسرائيل والولايات المتحدة. ارتبطت كلا من سياسة مبارك والإخوان، في علاقاتهم الخارجية بمصالح ضيقة إما دعما لمشروع شخصي أو مشروع جماعة. وهو ما يتحرر منه صانع القرار الحالي، فالرئيس عبد الفتاح السيسي ليس لدي جماعة وعشيرة يدين لها بالولاء وليس لديه مشروع شخصي. ما يعنى مزيد من الحرية لحركة السياسة الخارجية المصرية. نعم هناك ثوابت ومحددات للمصالح الوطنية المصرية، وهناك ارتباطات دولية راسخة عبر السنوات ولا يمكن الحديث عن تغيير ثوري في السياسة الخارجية المصرية. إلا ان المستجدات الإقليمية تفرض على الدولة أن تكون في حالة تكيف معها. وقد أثبتت كلا من ثورتي يناير ويونيو محورية تأثير الدور المصري. فمصر التي ساهم صعود الإسلاميين للحكم فيها في تعزيز المشروع الإسلامي في المنطقة هي أيضا التي سقط من خلالها هذا المشروع. الدولة المصرية ذات كيان ومصالح، الكيان ثابت عبر الزمن إلا أن المصالح تتغير وعليه ان تتغير السياسة الخارجية استجابة لتلك المصالح والمحددات الداخلية والخارجية. صحيح تفرض الأوضاع الداخلية قيود على حركة صانع القرار إلا أنه لا يمكن تجاهل البيئة الإقليمية وضرورات إحياء دور مصري فعال في قضاياها. واتباع سياسة أكثر تنوعاً وتوازناً واستقلالية، وهو ما نلمسه في العلاقات بين مصر وروسيا والتي لا تعنى كما روج البعض لأن يكون انقلابا في العلاقات المصرية الأمريكية، لكن من المهم ان تتنوع البدائل والخيارات لدى مصر والانفتاح على جميع القوى الصاعدة. إن أهم أدوات الدور المصري في ظل غياب القدرات الاقتصادية، هو القوة الناعمة المصرية والتي اختفت تماما. لذا لابد من استعادتها وهذا لن يتأتى بالحديث الإعلامي عن الأمجاد ووجوب احترام الشقيقة الكبرى، فالقوة تخلق الحق وتحميه. لذا لابد ان ننطلق من الدور الذي يفرضه الواقع الجيوستراتيجي لمصر وتحديد رؤية لما ينبغي أن نكون عليه خلال السنوات المقبلة، وأن تكون التكتيكات والتحركات على المدى القصير لمصلحة استراتيجية مصرية طويلة الأجل. من المهم التأكيد على مغزى قرار الرئيس السيسي بإصدار قانون يجرم الإساءة للثورتين رغم تحفظ البعض على الفكرة. فالهجوم على 25 يناير لن يؤدى إلا إلى خلق استقطاب جديد بين ثورتي 25يناير و30يونيو، إضافة لحالة الاستقطاب الحادة التي تشهدها البلاد بعد إسقاط حكم الإخوان. خاصة ليس لدينا رفاهية تحمل مزيد من التشرذم والتفكك.