مساء الأربعاء الماضي وجدت نفسي حاضرا بين (مرحلتين) لتاريخ جدة.. قبل خمسة وعشرين عاما كنت أعد التقارير الصحفية عن مشروع ترميم أحياء جدة التاريخية، وبدت تلك الجهود وقتها غريبة، ولا أحد يعرف ماذا تعني، والسؤال كان: لماذا التعب والخسائر؟! كانت أواسط مدننا بين حالين، الهدم أو الهجر؛ وأصبحت موئلا جديدا للغرباء وعابري الزمن، وما تحوي تِلْك البيوت من مفروشات ومقتنيات جُلبت مزهودا فيها إلى أسواق الحراج.. لتباع بثمن بخس، وكان الناس لهم حكاية مع تحولات الزمن السريع. كانوا حينئذ يتندرون على (الخواجات) الذين يشترون بقايا أثاث وخردات البيوت المهجورة، وكان سوق (الزل) بوسط الرياض متعة أولئك الخواجات! أيضا كان الناس يشفقون على بعض السعوديين من الفنانين التشكيليين والمعماريين ممن ينقبون في البيوت الخربة لينتزعوا شباكا خشبيا أو بابا، أو مرآة باطار خشبي بسيط، مرت عليها وجوه ووجوه، تركت مهجورة في جدار. والآن ندرك أهمية تلك الجهود الواعية، أو تلك التصورات العفوية للناس. الجهود الواعية بأهمية الزمن والتاريخ، هي التي حفظت جدة القديمة، وحفظت بقايا مدن أخرى في المملكة من الهدم أو الإزالة. والتصورات البسيطة العفوية للناس الزاهدة بالماضي هي التي تركت احياء عدد من مدننا القديمة كما هي بتكوينها المعماري وأزقتها ومساجدها وبساتينها، تركتها مع طفرة البناء الإسمنتي الجديد، وانتقلت إلى أحياء جديدة، وبقيت البيوت الطينية حزينة كئيبة، تساقطت جدرانها (وتكومت) على بعضها، كأنها تحتضن بقايا الزمن، وبقايا الذكريات، وماتت أشجارها واقفة، وغابت في الظلام سنوات طويلة. ثم دار الزمان، وعاد الوعي وبُعثت الروح فيها، وعاد الناس إلى الموئل الأول يقيمون بيوت الطين التي عاشت فيها أجيال، وكانت الصدمة الحضارية التي لم يستوعبها الأحفاد: (هنا جميعكم كنتوا عايشين وتنامون، بيتكم هذا بحجم غرفتي، يا جدي).. نعم هو محق في المقارنة وفي الدهشة! ••• ما حدث نهاية الأسبوع الماضي في جدة ومكة.. هو تحول تاريخي في مسيرة السياحة والآثار في المملكة، في جدة القديمة تحول (الحلم) الذي انطلق قبل ثمانية وعشرين عاما لتبقى أحياء جدة القديمة حية وشاهد تاريخ. (حلم) الأمير ماجد بن عبدالعزيز رحمه الله، تحول الآن إلى مشروع وطني تكاتفت الجهود الحكومية والخاصة لتحقيقه، والآن جدة التاريخية تعود من جديد، (جدة غير.. كنا كِدىٰ احلى). في إطلاق مهرجان جدة التاريخية، في نسخته الثانية تحت عنوان (شمسك أشرقت)، كنت مع ضيوفه نتجول لساعتين في المدينة القديمة، وكانت الدهشة. البيوت العريقة عادت إليها الحياة، وتتحول إلى مساكن أو متاحف أو مطاعم، والساحات أيضا تتبدل إلى مقاهٍ، والمساجد المهدمة يُعاد ترميمها، وأشهرها مسجد الشافعي الذي يعود لأكثر من ثمانية قرون، والذي تكفل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بإعادة ترميمه، والباعة بطرق ترويجهم البسيطة وأصواتهم الخافضة الرافعة تضيف متعة خاصة إلى المكان والزمان. هذه الحيوية الجديدة في الأزقة القديمة، انعكست فرحا ومتعة على وجهي الأميرين سلطان ومشعل، إنهما الآن يريان حلمين يتحققان. سلطان بن سلمان يبتهج وهو يرى حلمه يتحقق حيث تتحول السياحة إلى نشاط حضاري واقتصادي واجتماعي وإنساني، وهذا النشاط يتوسع ويتعدى إلى منافع حقيقية للناس، وأيضا يبتهج وهو يرى السياحة نشاطا يربط الناس ببلادهم، وأيضا نشاطا نقدم عبره بلادنا إلى العالم، نقدم ذاتنا كما هي، وتراثنا ووحدتنا الوطنية وتماسكنا الاجتماعي. أيضا الأمير مشعل بن ماجد كان سعيدا وهو يرى حلم والده الراحل الكبير يتحقق.. ولو بعد حين. هذا الحلم للأمير ماجد وللمهتمين بتاريخ جدة أثمر عن تسجيل جدة التاريخية في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو. هذا الحدث كما يقول الأمير سلطان بن سلمان (يمثل مرحلة مهمة من مسيرة العناية بجدة التاريخية وتطويرها سبقها وسيتلوها، بإذن الله، خطوات هامة وإنجازات متعددة تتضامن فيها الجهود المجتمعة والمخلصة من الجهات الحكومية والقطاع الخاص وأهالي جدة التاريخية). الأمير سلطان أيضا مسرور بما شهدته الأشهر الأخيرة ولاسيما بعد الإعلان عن انضمام جدة التاريخية إلى قائمة التراث العالمي من اهتمام وتفاعل كبيرين من المسئولين ورجال الأعمال والملاك وأهل جدة التاريخية؛ فكما يقول الأمير سلطان فقد تحقق (انتقال القيمة التاريخية للمنطقة من المباني إلى قلوب أهالي جدة الذين استعادوا تراثهم وشعروا بقيمته وحرصوا على توريثه وتسليمه لأبنائهم). هذا النجاح تعكسه الاحصائيات للزوار إلى جدة التاريخية، وفي حفل سوق عكاظ كنت جالسا مع الأخ محمد العمري مدير فرع السياحة في جدة وكان مسرورا لارتفاع عدد الزوار، فقد كانت تصله الأرقام كل ساعة، ومساء الخميس تعدى العدد الثلاثين ألف زائر. إنها نقلة كبيرة في المفهوم الاجتماعي وفي خدمات السياحة. الأمير سلطان في تلك الأمسية أشار إلى أن الزيارات للمواقع التاريخية (في السابق كانت محدودة والآن تجاوز عدد الزوار مليوني زائر خلال العام الماضي، ولم يكن هناك ترخيص ترميم إلا لبيتين أو ثلاثة، والآن تم اصدار 600 ترخيص، وكان الملاك ينفرون، وكانوا متخوفين من الدخول في هذه المغامرة، واليوم عشرات الملاك فتحوا بيوتهم، وفتحوا قبلها قلوبهم لترميم تراثهم والمحافظة عليه). السياحة تحقق كل يوم قصة نجاح، والآثار والمحافظة عليها تحقق أيضا (قفزات)، وهذا ما تم في رئاسة الحرمين الشريفين وفي حضرة فضيلة الشيخ عبدالرحمن السديس، وهذه قصة أخرى نرويها غدا، بحول الله. الأميران سلطان بن سلمان ومشعل بن ماجد خلال جولة في أحد أزقة جدة التاريخية .. ويزيحان اللوحة التذكارية عن مشروع جدة التاريخية عودة الحياة والحركة إلى أسواق جدة التاريخية