تؤكد نظرة سريعة للمشهد السوري، حقيقة التطرف المتصاعد فيه. فمن الناحية السياسية والعسكرية، يسيطر النظام وأنصاره على قسم كبير من المشهد، والقسم الرئيسي الآخر، تسيطر عليه التنظيمات المتشددة، وكلاهما ينتمي إلى عالم التطرف، ومن الناحية الجغرافية، يسيطر النظام والجماعات المتشددة على أغلب المناطق، وفي كل الحالات السياسية والعسكرية والجغرافية، ليس للقوى المعتدلة إلا مساحات ضيقة، وبعض من الجزر غير المترابطة الموزعة في الجهات الأربع من البلاد. ويتناقض المشهد السوري في حالته الراهنة مع الشائع والمعروف في أن سوريا كانت، على مدار تاريخها الحديث والمعاصر، خارج سياسة التطرف وجغرافيته، كما شاع عن أهلها أنهم الأكثر وسطية واعتدالا في المنطقة. ويدعم أغلب أصحاب هذه النظرة رؤيتهم، بقول إن التنوع القومي والديني والطائفي، إنما هو تعبير عن روح الاعتدال والتعايش، التي ميزت السوريين، وجعلتهم شركاء في كيان واحد، رفع آباء الاستقلال السوري أحد أبرز شعاراته في القرن الماضي، وهو شعار «الدين لله والوطن للجميع». وليس من باب المبالغة، القول، إن مضمون شعار آباء الاستقلال، قد تعرض لانتهاك شديد، ولا سيما في السنوات الأخيرة، التي صار فيها الحسم للسلاح باعتباره أداة بيد متطرفي النظام والجماعات الإرهابية، وأنه حل محل السياسة، التي تقوم بالدور الأهم في التفاهم والتوافق ومعالجة المشكلات في الحياة الوطنية، ولا يحتاج إلى تأكيد قول إن هذا التحول جاء نتيجة طبيعية لعوامل داخلية وخارجية، أثرت على الواقع السوري في العقود الماضية، وخصوصا في السنوات الأخيرة. إن الأبرز في العوامل الداخلية تجسده السياسات الناجمة عن سلطة الاستبداد التي مثلها نظام البعث، ولا سيما عهد الأسد بين الأب والابن، وكان الجوهري في تلك السياسات اتباع سياسات متشددة متطرفة، تقوم على الانقسامات الوطنية، وتقوية روح الانقسامات العنصرية والدينية والطائفية، وشيوع الفساد وشراء الولاءات وغيرها، التي جاء الرد عليها في مستويات من مقاومات سياسية وشعبية، تفاعلت في بعض الأحيان مع سياسات النظام من الخندق المقابل على نحو ما بدت أحداث الثمانينات، والتي بلورت في سوريا، ولأول مرة في تاريخها الحديث، جماعات متطرفة مسلحة في صف النظام من جهة، وفي الصف المقابل له، وقد فتح هذا التطور الباب على تدخلات وعوامل خارجية، ساهمت في نمو واتساع التطرف، ومهدت للتطرف الذي تصاعد في السنوات الأخيرة عبر تصعيد دور العوامل الخارجية. وترتبط العوامل الخارجية وتزايد دورها في صعود التطرف بالبيئة، التي أعقبت قيام ثورة السوريين في وجه نظام الأسد، وكان من أبرز ملامحها الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة حركة الاحتجاج الشعبي، وتشكيل ميليشيات مسلحة تدعم النظام، ثم نشر الأسلحة في كل مكان، وسحب قوات النظام من بعض المناطق الحدودية، ولا سيما في الشمال والشرق، وتشجيع دخول ميليشيات متطرفة منها «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية إلى سوريا للقتال إلى جانب قواته، وكلها أشاعت الفوضى، وساهمت في الدفع نحو عسكرة الثورة، وتحول بعض الحراك الشعبي إلى المقاومة المسلحة، وبدء توافد متطوعين لمواجهة إرهاب النظام ومعه. وتندرج العوامل الخارجية لتصعيد التطرف في مسارين: أولهما مواقف الدول التي لها تأثير في الوضع السوري أو لديها رغبة في أخذ مكانة لها فيه. والثاني تدخل التنظيمات والجماعات، ولا سيما المتطرفة، التي رأت في الوضع السوري حيزا لتحقيق أهدافها وطموحاتها. وفي الحالتين، كانت الدول والجماعات تستفيد من الظروف الداخلية والخارجية التي تحيط بسوريا. لقد دفعت إيران، وبالتفاهم مع نظام الأسد، بالميليشيات اللبنانية والعراقية للدخول إلى سوريا، وجميعها ميليشيات ذات طبيعة متشددة من الناحيتين؛ الدينية والطائفية، ثم أضافت إليهم تشكيل ميليشيات من المرتزقة والقتلة من إيران وأفغانستان، ولم يقتصر دور ما سبق على العمليات العسكرية والأمنية، بل امتد إلى ممارسات تغذي نزعات التطرف عبر احتفالات وأنشطة إعلامية، ومساعدات غذائية، هدفها تحشيد طائفي يعمق الانقسامات في البلاد. ولم تكن إيران وحدها في هذا الخط من تنمية الأحاسيس المتطرفة، فكل الدول التي دعمت تشكيلات سياسية أو عسكرية سورية، استخدمت دعمها في التأثير على توجهات تلك الجماعات المنتمية إلى هوية أخرى، وبصورة عامة دعمت التشكيلات الدينية والقومية السياسية والعسكرية المتشددة من قبل دول الخليج العربية ومن قبل إقليم كردستان العراق، وهو ما أذكى روح متطرفة في مناطق واسعة، قبل أن يؤدي إلى أسلمة الثورة وتشكيلاتها، وإلى بلورة حس قومي متشدد في أوساط عربية وكردية. وباستثناء الدور المباشر الذي ساهمت فيه دول قريبة وأخرى بعيدة في تعزيز التطرف، فقد لعبت دول كثيرة، بينها دول تضع نفسها في الصف الأول في الحرب الدولية على الإرهاب والتطرف، مثل: الولايات المتحدة، وروسيا، ودول أوروبا الغربية، دورا كبيرا في تصعيد التطرف عبر تأخرها في حسم الصراع السوري، وإطالة أمد الصراع فيه؛ مما دفع، ليس لتوجه مزيد من المتطرفين الأجانب إلى هناك فحسب، إنما أيضا إلى تنامي بيئة التطرف المحلية. ولم يختلف مسار التنظيمات والجماعات الخارجية في دعم التطرف، إلا قليلا عن مسار الدول، فأغلب الجمعيات، وخصوصا العاملة في البلدان العربية وفي أوساط واسعة من الجاليات الإسلامية عبر العالم، ركزت في مساعداتها على دعم ومساندة قوى وتشكيلات التطرف سواء كانت في صف النظام ومؤيديه أو في صف «المعارضة» ومؤيديها، وأغلبها قام بعمليات دعائية، وجهود تنظيمية، دفعت متطوعين للذهاب إلى سوريا، ورغم أن بعضهم رغب في القتال ضد نظام الأسد بسبب ما ارتكبه من جرائم ضد السوريين، فإنه تم توجيه الجميع للانخراط في صفوف الجماعات المتطرفة، والتورط في ممارساتها الإجرامية. إن ثمار العوامل الداخلية والخارجية في دعم وزيادة التطرف، تجاوزت حدود سوريا بما تركته من آثار مدمرة على الأصعدة السياسية والعسكرية والثقافية، وعلى صعيد القتل والدمار والوحشية المرافقة لهما إلى تأثيراتها على المحيط الإقليمي، كما هو الحال في العراق ولبنان وتركيا وصولا إلى أوروبا، التي دفعت وحدها عشرات آلاف المتطرفين من مواطنيها قبل أن تتعرض لموجة الإرهاب الحالي، والتي يرتبط أغلب المنخرطين فيها بنمو التطرف وصعوده في سوريا.