بقلم : د.عبد العزيز بن عبد الرحمن المحمود الحمد لله هدانا للحقِّ والسنة، وأجزل لنا العطيَّة والمنَّة، والصَّلاة والسلام على إمام المتقين، ومن أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين. أمَّا بعدُ: فالله جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه أنعم علينا في هذا البلد الشَّريف بالحكم بشريعة الإسلام خير شِرْعة ومنهاج، والفصل بها في المنازعات واللِّجاج، حتَّى سادت السنَّة ورُفعت أعلامها، وقُمعت البدعة وكُسرت أقلامها، فعمَّ الأمن أرجاء البلاد، وحُفظ الدِّين والدُّنيا من طارفٍ وتِلاد، وبفضل من الله تعالى وتوفيقٍ أصبحت بلادنا اليوم كاهل المسلمين الأشد، وهامة العرب العُليا، وقلب اقتصاد العالم النابض. إنَّ المملكة العربية السعودية قد وقفت بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز متعه الله بالصحة والعافية ضد الإرهاب موقفًا شجاعاً فأجهزت على فلوله وهدت أركانه، وأظهرت رأيًا حازمًا فحاصرته وكسرت شوكته وحددت جماعاته وحذرت من الانتماء إليها، وأبدت حلمًا رزينًا فناصحت المغرورين والمغررين، وشهد العالم أجمع بهذه الحكمة العظيمة وأن اللين قد وضع موضعه وأن الغضب قد كان في محله، وشواهد الامتحان تظهر معادن الدول العظام، وتظهر قوة إيمانها بإلهها وربها وخالقها، وصبر دولتنا –أيدها الله بتوفيقه-على الضلال ساعة أطفأت جمرته سنين مديدة. ومع ذلك فقد عانت دولتنا المباركة وعانينا من هذه الشرذمة البتراء، فأبوا علينا إلا المناجزة ولم يرفعوا رأسًا بالعفو ولا المناصحة، وإن لحمة قيادتنا بشعبها لا تكسرها تهويشات الحاسدين، ولا يثلمها دعم الحاقدين والمتربصين، ورجال أمننا البواسل قد دربوا على أعظم من تشغيبات الإرهابيين، وإيمان رجالنا بربهم وبنصره أكبر من يأس الخوارج المارقين، وإننا بإذن الله تعالى منصورون وعلى بغيهم ظاهرون، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون. ومن سنوات ثارت الفتن في بلاد المسلمين، وطالت إخواننا وجيراننا من البلدان، ونحن بحمد الله وفضله سالمون غانمون، حتَّى أَمِنَّا من العدو أن يحمل في بلادنا السلاح، والناس من حولنا يتخطفون، فلا هم أمنوا عدوَّهم، ولا أمنوا على أنفسهم، واجتمع بسبب هذه الفتن والفوضى جماعاتٌ لفظتهم أوطانهم، وخلعهم أهلوهم، قد أعماها سوء قصدها عن رؤية الحق الأبلج، وأغراها خبثُ طوِيَّتها عن إرادة الخير والسَّعي فيه، فأرادوا بنا كيدًا فكانوا هم الأخسرين. هذه المارقة من الخوارج لا تنتقي إلا الجُرْم الأشدَّ والأثر الأنكى بالمسلمين، يحاربون ولاة الأمور وحكومات المسلمين، وجعلوا غرضهم أهل الرباط والإقامة في الثغور من رجال حرس الحدود، فاختاروا من عناهم النبيُّ المختار في حديث عينين لا تمسهما النار، منهما عين باتت تكلأ في سبيل الله. عمد هؤلاء الخوارج إلى الأماكن التي يُخاف على أهلها من أعداء الإسلام، فسعوا في قتل من أعدَّ نفسه للدفاع عن دينه وإخوانه المسلمين، فباغتوهم غدرًا وخيانة، فقتلوهم وقتلوا أنفسهم، فبئس الخسارة، ألم يعلموا قولة حكيم الرُّوم: (وكذلك الرسل لا تغدر)، إنَّ رسول الهدى صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقنت على قومٍ شهرًا يدعو عليهم إلا قومًا قتلوا أصحابه غدرًا، والله جل وعلا أمرنا في محكم كتابه إذا كنَّا في حربٍ مع العدوِّ ألَّا نغدر فقال: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (ينصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يعرف به) رواه البخاريُّ، وقال صلى الله عليه و سلم: ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان بن فلان ) رواه مسلمٌ. إنَّ بيان ضلال هؤلاء الخوارج من ألزم واجبات أهل العلم والإيمان بعد بيان التوحيد المنجي من النيران، وقد قال عنهم سماحة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث، منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفوا عن دماء الكافرين). وقبل عقود خرج من أبناء المسلمين من أنشأ تنظيماتٍ سمَّاها جهاديَّة، وحصروا الدِّين في الجهاد، ثم تطور بهم الأمر حتى انعزلوا ثم خالفوا جماعة المسلمين ثم خلعوا البيعة لحكّامهم فبدؤوا شيئًا فشيئًا كما قال صلى الله عليه وسلم: (يتجارى بهم الهوى كما يتجارى الكلب في صاحبه)، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالبدع تكون في أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعاً وأميالاً وفراسخ)، وصدق رحمه الله فهكذا صارت هذه الجماعات. وبيان ضلال هذه الجماعات من ثلاثة أوجه: فالأول: خروجهم على جماعة المسلمين وإمامهم؛ وذلك أنَّ لهم أميرًا خاصًّا بهم وهذا الأمير ليس أميرًا على أحدٍ سواهم، وأن لهم مفتين خاصين بهم ولا يسمعون إلا منهم، وهؤلاء المفتون لا يستفتيهم أحد غيرَهم من المسلمين بل لا يعرفهم أكثر المسلمين، وليس معهم من العلماء من شُهد له بالرسوخ والعلم وكمال العقل، وإن الله سبحانه وتعالى تعهّد بحفظ الدّين، ومن مقتضيات حفظ الدّين أن يشتهر علماء هذا الدين، وكذلك اختلافهم عن المسلمين بلباسهم وشعورهم وهيئاتهم، حتَّى أصبح لباسهم لباس شهرة. والثَّاني: أفعالهم التي جرت على المسلمين الويلات وضاعت بلدان للمسلمين بسببهم، فوجهوا شرهم نحو المسلمين، وشوهوا صورة الإسلام، ورأوا أن من ليس معهم فهو على ضلال، ومنها: نحرهم الناس وتصوير ذلك؛ وهل هذا إلا تشويهٌ للدين، فإذا كانوا يريدون تخويف المحاربين فإن المحارب سيستمر في قتالهم، وإن كانوا يريدون تخويف المسالمين فهذا لا يجوز بل هو عين تشويه الدين. والثَّالث: مخالفتهم لمقصود الشرع من الجهاد حيث جعلوه غايةً وهو وسيلة، فقالوا: إن الإسلام لن ينتصر ببث العلم والدروس والخطب بل سينتصر بالسيف وبالأشلاء والمفخخات، وخالفوا صراحةً قوله صلى الله عليه وسلَّم: (بني الإسلام على خمس ) فالجهاد حامٍ لهذا وناشرٌ لهذه الخمس، وقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) فنهى الله جميع المؤمنين أن يجاهدوا وأمر طائفة أن تجلس للعلم. فهذه ثلاث عورات لهم! ليس علينا ولا عليهم جناح بعدهن. أسأل الله جل في علاه أن يحفظ علينا إيماننا وأمننا، وأن يمتع خادم الحرمين الشريفين بالصحة والعافية وأن يؤيده وولي عهده وولي ولي عهده بتأييد من عنده، وأن يوفقهم ويعينهم ويرزقهم القبول والسداد، وصلى الله على نبينا محمد.