الكل في المنطقة العربية ضحايا لجنون الإرهاب والتطرف... ساوى بين المرأة والرجل، وكل المسيحيين والمسلمين وغيرهم. لا أمن بلا تنمية، ولا تنمية فاعلة لا تقتل الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي. التمييز يخصّب المجتمعات فتخترقها «جيوش» العنف و «القاعدة» و «داعش» الذي كان نجم جلسات الحوار في مؤتمر نظّمته وزارة الخارجية المصرية ومكتبة الإسكندرية. ثلاثة أيام من المداولات «نحو استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرف»... كان بديهياً أن تواكبها حراسة مشددة حول مقر المكتبة المطل على شاطئ لم تستثنه العاصفة العاتية التي ضربت منطقة تحاصرها عواصف الإرهاب، وأشباح «داعش». < ما صدر من توصيات في نهاية الأيام الثلاثة، قد يحتاج شهوراً من النقاشات، في عصر قطع الرؤوس الذي يطارد الجميع، ولو كان جنود «داعش» بعيدين آلاف الأميال. وقد يكون الذعر المستتر وراء نقاشات ساخنة، هو ما شجّع على طرح قضايا كثيرة، بعضها كان محظوراً. والأهم ان الجميع في المواجهة، والصحيح كذلك اقتناع الجميع بأن لا حصانة ضد الإرهاب في ظل الفقر والتمييز والقهر. رعـى المؤتمر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وشارك في افتتاحه الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي. حضر رجال دين مسلمون ومسيحيون، ساسة وإعلاميون ومثقفون من دول عربية عديدة. وبين عناوين جلسات الحوار: «نحو مواجهة فكرية للتطرف»، «إعادة بناء الفكر الإسلامي المعاصر»، الإعلام في مواجهة التطرف، وجلسة أخرى للمرأة في مواجهته، وثالثة للتعليم، ورابعة للثقافة، وخامسة لنقد خطاب التطرف، وسادسة لتحديات «الأمن القومي»، وسابعة لـ «دور المسيحيين العرب». وخصصت جلسة لـ «القوى السياسية العربية في مواجهة التطرف». وشاركت في إدارة الحوارات بدرة قعلول (تونس) وجوهرة السديري (السعودية) ومنى فياض (لبنان)، وفي الكلمات التمهيدية عز الدين ميهوبي (الجزائر) وعبدالوهاب بدرخان (لبنان) وآمال المعلمي (السعودية). وإذ نصح الروائي الكويتي طالب الرفاعي بالانفتاح على الثقافات، دعت قعلول الجميع إلى «الكف عن التنظير»، لأن المطلوب آليات (وصفة) محددة لمواجهة التطرف، يفترض أن تحال على القمة العربية المقبلة. وبين دعوة إلى إعلام «مهني» في نقل الحقائق، وأخرى إلى توسيع دائرة الحريات والاقتداء بنموذج «الدولة المدنية» في تونس، طغى على معظم الحوارات العامل الديني، تبعاً لاستغلال المتطرفين مفاهيم الدين و «التلاعب» بها لإخضاع الأتباع وتضليل المتعاطفين معهم. كان بديهياً أن يتضمن البيان الختامي للمؤتمر إشارة الى «إعادة تشكّل النظم السياسية إثر الثورات الشعبية في بعض الدول» العربية، لكنه شدد على «ظهور تنظيم داعش الذي يرتكب أبشع الممارسات في حق الإنسانية، تحت شعار الإسلام، وتصاعد خطاب التطرف والكراهية دينياً ومذهبياً وسياسياً، وما يقترن بذلك من ممارسة العنف بكل أشكاله». كما أقر بـ «انجراف شعوب بعض الدول (العربية) إلى حروب أهلية، أو نزاعات قبلية وجهوية قديمة، يجري إحياؤها من مرقدها». ولم يُغفل «مظاهر الاستقطاب» في مجتمعات عربية «على أسس مذهبية ودينية وعرقية، بما يحمل نُذُر التقسيم الجغرافي وتهديد الهوية الجامعة لكل المواطنين». وإذا كان واضحاً أن مأساة سورية ومحنتي ليبيا واليمن، لن تجد نهاية قريبة، وسط كل الدمار والخراب، وانفلات آلة القتل وتلبّد الفضاء العربي بغيوم التقسيم وتفتيت كيانات ودول، فالحال أن أحداً لم يتوهم في قاعات مؤتمر مكتبة الإسكندرية، أن المطلوب إيجاد صيغة لوقف شلالات الدماء وطوفان اللاجئين في أوطانهم وما وراء الحدود. جوهر المهمة كان تشخيص أسباب تفشي التطرف بكل مظاهره وتحديد توصيات تشكّل آلية للمكافحة، لعلها تفيد الدول العربية التي اكتوت وما زالت تكتوي بنار الإرهاب. في صدارة الأسباب «ثقافة الاستعلاء ورفض الآخر وانتفاء ثقافة المشاركة» في مناهج التعليم والتنشئة الاجتماعية. لذلك تطغى الفردية المضخّمة التي تعمي البصر عن حتمية الإنصات إلى الآخر، لتشكيل صمام أمان لتماسُك المجتمعات... فلا تتجذّر ذهنية «أنا أو لا أحد». أوليس ذاك السلوك ما زال مهيمناً في جمهوريات نهضت على أنقاض ديكتاتوريات؟ هو الانفصام، أمُّ العلل في المجتمعات العربية، وتلك كلمة ترددت كثيراً في أروقة المؤتمر ومداخلات مشاركين، كما ترددت عبارة التطرف الديني، و «الخطابات الدينية المتعصبة التي تستند إلى تأويلات وتفسيرات خاطئة، مفارِقة لصحيح الإسلام، ومجافية لروح كل الأديان». ويعدد البيان بين أسباب التطرف، والفقر والأمّية والجهل، «الثلاثية» التي تدفع الشخص الى الانسياق وراء خطاب ديني مشوّه، وفتاوى وتأويلات مغلوطة»... وبين أمصال الوباء «الشعور بالقهر نتيجة المعايير المزدوجة في العلاقات الدولية تجاه قضايا العرب والمسلمين، وفي مقدمها القضية الفلسطينية واحتلال أراضٍ عربية». ولا يبرّئ المؤتمر «قوى فاعلة، دولاً وجماعات» من إذكاء التطرف ورصد موارد «لتأجيج العنف في المجتمعات العربية، بهدف خدمة مصالحها، وإضعاف الأوطان وتمزيق أواصرها»... وعلى رغم رفض تبرير كل مظاهر التطرف بنظرية «المؤامرة»، ما زال بين المثقفين والمفكرين المصريين مَنْ يخشى على وحدة بلاده، ويتحدث عن سيناريو دويلة في النوبة. آخرون يتلمّسون أزمة الثقة بين القاهرة والغرب، خصوصاً واشنطن، في مرحلة ما بعد إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي، لذلك لم يعد الغرب نموذجاً يُحتذى لا في الحريات ولا في مكافحة التطرف. ولذلك أيضاً يبدو مفهوماً توجُّه مصر شرقاً، نحن موسكو وتسلُّمها صواريخ روسية متطورة، فيما الغيوم في سماء العلاقات المصرية- الأميركية لم تتبدد بعد. وعلى رغم الدهشة، يبدو مفهوماً اندفاع مؤسسات ومصالح ألمانية الى العمل في مصر بكثافة، والاهتمام بتعليم اللغة الألمانية، في سوق عمل ضخمة، تتلقف الاستثمارات من الخارج. انتماءات وغضب اعتبر البيان الختامي للمؤتمر أن تنوُّع انتماءات المشاركين سياسياً وفكرياً قدّم «نموذجاً يُحتذى في الحوار البنّاء القائم على احترام الاختلاف، والتنوُّع الخلاق وقبول الآخر»... على رغم أن انتقادات وجّهها مصطفى الفقي أو تحفّظات على كيفية إصلاح الخطاب الديني في مصر، استفزّت أحد رجال الدين الحاضرين، فأجاب بانفعال، بما يوحي بأن الفقي تجاوز الخطوط الحمر فأغضب مشايخ. في المقابل، لم يثر حديث ياسر عبدالعزيز، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، عن أهمية «تجديد الدين» أي اعتراض، فيما الفارق هائل بين العقيدة الدينية والخطاب المتداول والممارسة. واستحضر النقاش مسألة الحوار لتطوير تطبيق المفاهيم الدينية، بحيث تواكب العصر من دون المس بجوهرها، ويُقطع الطريق على مَنْ يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة، ويعطون لأنفسهم حق محاسبة العامة تحت غطاء الحرص على الشريعة. توصيات للمكافحة في توصيات المؤتمر، تصدّر الخطاب الديني العناوين، بنقطتين: «1- تصدي المؤسسات الدينية للمفاهيم التي تروَّج في المجتمع، بخاصة بين الشباب، وفي مقدّمها التفسيرات المشوّهة لمفهوم الجهاد والرّدة ووضع المرأة، وكذلك الدعوة إلى تغيير الأوضاع القائمة بالعنف، والخروج عن دولة القانون والمؤسسات. 2- فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة، والاعتراف بالمنظور التاريخي للتشريع وتطويره، للتلاؤم مع مقتضيات العصر، وإحياء جهود المجددين من أعلام الإسلام، والتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان». لكن السؤال الأبرز هنا قد يكون حول إمكان توافق الدول والمرجعيات الإسلامية على مرجعية موحّدة للاجتهاد. ... على المسلمين والمسيحيين البيان الختامي الذي أصرّ مدير مكتبة الإسكندرية إسماعيل سراج الدين على عدم السماح بالسقوط في شراك السجال حوله، فاتحاً الباب لملاحظات يدوّنها المشاركون في المؤتمر، شدد على «التصدي لمحاولات فرض الوصاية الفكرية أو الرقابة الدينية». تُسجَّل هنا ثغرة في الطابع العام لعبارة الرقابة الدينية، وهذه قد تكون في يد السلطة أو ترعاها مرجعية ما، وربما يُفهم منها تدخُّل جمعيات أو أحزاب في قيود على المسلمين والمسيحيين بذريعة حماية الأديان. ووفق التوصيات، لن تكون مكافحة التطرف ناجعة من دون حرب على الخرافة والتطرف بتكريس «العقلانية» ونشر «الفكر النهضوي»، وتشجيع نشر الفنون، وتدشين مواقع للتواصل الاجتماعي بين الشباب «تحاصر التطرف وثقافة العنف»، وتدعم حرية الفكر. كذلك تحض التوصيات على إنشاء «مرصد لمجابهة التطرف» يكون مقره في مكتبة الإسكندرية «على غرار مرصد الإصلاح العربي لمواجهة فكر التطرف». ومن عنوان الثقافة إلى التعليم، حيث برزت الدعوة الى توحيد نظمه، على الأقل في المرحلة الأساسية و «منع الازدواجية بين تعليم مدني وآخر ديني أو أجنبي، لضمان تشكيل العقل العربي من دون تشرذم أو اضطراب». كما برزت توصية بـ «تنقية برامج التعليم الديني من الأفكار التي تشجّع التطرف والعنف». وأُفرِد عنوان للإعلام لحض مؤسساته على «التزام المواثيق المهنية والأخلاقية»، بما فيها الامتناع عن إثارة السجالات الدينية أو المذهبية أو «التنابذ السياسي أو القبلي أو العرقي»... وإطلاق «مبادرة عربية لمراجعة المعايير المهنية والأخلاقية» في الإعلام، وتجريم نشر ما يبث الكراهية ويحرّض على العنف. ... وما يحرّض في كل المنطقة، لا يستثني أحداً.