نشرت إحدى الصحف، أنه في خطوة تعد الأولى من نوعها في القضاء وتطبيقاً لنظام التنفيذ الجديد، أصدرت وزارة العدل - ممثلة بقضاء التنفيذ - حكماً قضائياً بإلزام أب دفع 1500 ريال شهرياً لابنته بقوة النظام، بعد أن رفض تنفيذ الحكم. هذا الخبر أثار مواجع الأمهات المطلقات، بل كل النساء اللاتي يعرفن جيداً أن حقوقهن داخل مؤسسة العدل الكبرى تثير جدلاً لا نهاية له، وأن هناك من يقدم ويؤخر في مسألة حسمها. الخبر أيضاً يقول إن الأب الذي ماطل في دفع النفقة وجد نفسه خارج حرية نقض القرار، فالقاضي خاطب مباشرةً محافظ مؤسسة النقد السعودي وزوده بصورة من القرار القضائي، وطلب من المؤسسة إفادته بتنفيذ الحكم القضائي وحسم 1500 ريال شهرياً من حساب المدعى عليه لمصلحة ابنته، وإفادة القضاء خلال ثلاثة أيام من تسلم أمر الحجز، بناء على المادة رقم (60/2) من نظام التنفيذ، ونفذت المؤسسة حكم القضاء على الفور. وخلال أسبوعين فقط من صدور الحكم تم تنفيذه بدفع النفقة بقوة النظام، بعد أن كان في السابق لا توجد جهة محددة تلزم تنفيذ الحكم القضائي. الخبر بحد ذاته يعتبر إنجازاً مفاجئاً لانتصار العدل بفضل قاضٍ واجه الأمر بإتقان ومهارة، لكن هذا الخبر أثار معه كثيراً من الأسئلة، فهو في ظاهره عادل ومنصف ويستحق الإشادة. لكن السؤال، هل ما فعله القاضي هو وفق نظام جارٍ يتخذ في كل مرة في الحالات المتشابهة، أم أنه اجتهاد فردي من قاض عادل؟ الجواب للأسف يحمل معه تناقضاته. فهو اجتهاد من قاضٍ آمن بعدالة ما يفعله، لكنه لا يلزم القضاة الآخرين به طالما أن القضاء يرفض التقنين، وليس بالضرورة أنه سيتكرر في حالات متشابهة، بل إن بعض الأمهات اللاتي فتحن جدلاً في وسائل التواصل الاجتماعي وفي المجالس العامة يؤكدن أن هذه النفقة المقررة كانت كريمة جداً مع الأم، فالقاضي عادة لا يقضي إلا بـ500 ريال للطفلة الأنثى، أي 100 دولار في الشهر، وألف للذكر! ولو لاحظتم أنه لم يذكر أن هناك نفقة تقررت للأم الحاضنة، فالأم الحاضنة أيضاً تلزمها نفقة وفق الشريعة الإسلامية ووفق القوانين المتحضرة يدفعها، وقد وجدت - أنا شخصياً - حالات أمهات لم ينلن هذه الـ 100 دولار، بل وكفّت الأم عن ملاحقته كي تكفي نفسها مشكلات الأب الأخرى. أما الأمهات المحتاجات اللاتي يواجهن جوعاً وفاقة، فهن يضطررن إلى معارك ومسلسل قد لا يسفر عن شيء. في المقابل، فإنني حضرت مؤتمراً عقد في الرياض عن ملف الأحوال الشخصية، فوجدت متخصصين في القانون يتحدثون عن نظام قد أقر، يمنح الصندوق حق أن تقتطع من الأب نفقة الأبناء من راتب الأب ومن دون أذنه بالنفقة التي تقضيها المحكمة، لكن معظم القضاة لا يلجأون إليه، وفوجئت بأن ممثل مؤسسة النقد يقول إنهم ملتزمون بقطع نسبة معينة من راتب الموظف لا يمكن أن تزيد في أية حال، بمعنى أن الموظف إن كان تقتطع من راتبه دفعة شهرية لأقساط سيارة فإن الصندوق لا يستطيع أن يزيد عليها ويقتطع نفقة عياله، يا سلام! معارض السيارات تحظى برعاية الصندوق ودعمه أكثر مما يحظى نظام الأحوال الشخصية، لأنه لا توجد أحوال شخصية، والسيارة مقدمة على الأطفال! النظام الذي لا تتجاوز قوته سطح الورق لا يعد نظاماً، بل تضليل وحماية للفوضى تسفر دائماً عن ضياع الحقوق. وللأسف، إن النساء أمهات ومطلقات ومعلّقات هنّ أكثر من يعانين هذا الإهمال للأسف، والسبب أن القضاء يُبقي نفسه دائماً منعزلاً ومغلقاً ضد أنظمة الدولة الحديثة والمتطورة، فهو يظن بأنه هو وحده من يمتلك حق الاجتهاد في مسائل العدل والقضاء بعيداً من التعاون مع المؤسسات الأخرى، بل ويعتبر نفسه مفصولاً عنها لا شريكاً معها، ولا أدل على ذلك من رفض القضاة الاعتراف ببطاقة المرأة المدنية تعريفاً رسمياً لها. فبعضهم لا يزالون يطلبون شاهدَين كي يعرّفا بأن المرأة الواقفة أمامه هي فلانة بنت فلان، ويعرف القاضي أن واحداً من الشاهدَين هو قريبها، أما الآخر فأحياناً هو مجرد شاهد من رجال يجلسون خارج المحكمة، يبيعون شهادتهم في مقابل مادي لمن أراد، ومستعدون لأن يشهدوا على أي شيء، أي شاهد زور وسر! الاستهتار بهذه القضية إنها مجرد قضايا مبايعات وإثبات شخصية لا يضر الزور فيها، وحين يقبل القاضي بالزور ويرفض نظام الدولة فهذا والله «كبير». balbishr@gmail.com