ما إن ترمش عين المذيع أو المذيعة (مقدمو البرامج التلفزيونية) حتى تضج مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو توثق هذا الحدث الجلل. قد يكون في هذا القول بعض المبالغة. لكنّ فيه، كذلك، مقداراً كبيراً من الصواب، فالمطلوب من المذيع، والمذيعة طبعاً، أن يكون أشبه بصنم، وأن يكون جامداً ومتخشّباً أمام الكاميرا ولا سيما في نشرات الأخبار، وعندما تضبطه العدسة وهو يشرب قليلاً من الماء أو يحمل فنجان قهوة، أو يضحك من مشهد ما أو خلال حوار مع ضيف، أو يتوه قليلاً عن العدسة، أو يرتب تسريحة شعره، وهذه الحركة الأخيرة تتكرر كثيراً مع المذيعات... فإن هذه «الوقائع الاستثنائية» ستخلد في الشبكة العنكبوتية، وستجد سيلاً من التعليقات، فضلاً عن آلاف مرات المشاهدة. ويتجاوز الأمر أحياناً هذه الأفعال والحركات البسيطة الاعتيادية، كذاك الموقف الذي حصل مع مذيعة سورية، قبل أسابيع، تعمل في قناة مغربية، إذ دخلت ابنتها الى الاستوديو اثناء قراءتها لنشرة الأخبار، وهي تحمل الهاتف المحمول لوالدتها، فظهرت في الكادر سريعاً وسرعان ما خرجت. لكنّ الجمهور الفضولي لم يشأ أن يترك الحادثة تمر مرور الكرام، بل نشر مقطع الفيديو بكثافة، وراحت الفضائيات، آنذاك، تتلقف هذا المشهد وتتناوله وكأنه خبر عن كائنات غريبة قدمت من كواكب بعيدة لتغزو الأرض، والحال أن المشهد الذي ظهرت فيه الطفلة عفوي ولم يكن يستدعي كل هذا الضجيج. إن ما يجعل مثل هذه المشاهد البسيطة مادة دسمة للتعليقات والمتابعة، هو أسلوب الفضائيات ذاتها، فهي تتبع نوعاً من الصرامة والوقار لدرجة أن اي رمشة عين تبدو نافرة وواضحة، ومثل هذا الحرص الشديد في أن يكون المذيع متجهماً وجدياً وحركاته محسوبة بدقة... ليس مفهوماً. طبعاً هذه ليست دعوة لأن يتحول الاستوديو إلى فضاء من الصخب والفوضى. لكنّ المذيع هو في النهاية إنسان قد يضحك من مشهد أو قد يذرف الدمع لمشهد آخر أو قد يتثاءب، أو يسهو عن الكاميرا، أو حتى يتفوه بجملة لزميله أو للمخرج أو المعد... وهو حين يُقدم على مثل هذه الحركات، فإن ذلك لن يؤثر كثيراً في جودة المادة الاعلامية بل ربما يعطيها شيئاً من المرونة والعفوية المحببة. كل شيء ممنوع على المذيع، فقط عليه أن يقرأ كـ «تلميذ نجيب» ما هو مكتوب على المونيتور أمامه، وأن يتحلى بأقصى درجات ضبط النفس، وإنْ تجرّأ وخالف هذه القواعد والشروط فسيكون صيداً سهلاً لجمهور يبحث بدأب عن العثرات والهفوات. يحيلنا هذا الحديث على فيلم سينمائي يضم مشهداً بالغ الدلالة يظهر فيه الفنان يحيى الفخراني في سرادق العزاء، إلا أنه ووسط جو الحزن والصمت تنتابه موجة من الضحك، بل القهقهة، لا يستطيع معها السيطرة على نفسه. هذا ترف لن يتمتع به مذيع الفضائيات الذي عليه أن يتقيد بنظام صارم وهو يتلو أنباء عن عالم فوضوي، مضطرب.