نركض في هذه الدنيا ولا نعلم عن المصير المجهول الذي قد يداهمنا دون سابق إنذار، وحياتنا منذ البداية مسخرة لبناء المستقبل؛ فالكل يفكر في تحقيق الطموح والاستقرار، فهذا عينه على الوظيفة، وذاك همه المسكن، وآخرون فيما بعد التقاعد، وغيرهم لا يبالون بما يدور حولهم. نغرق جميعنا في ملذات الحياة، نشقى لكي نحصد، الكل ينشغل بمبتغاه وهدفه الذي رسمه وأفنى حياته من أجله، يتعثر تارة، وينهض تارة أخرى دون ملل أو كلل، لكنه سيصل ذات يوم إلى محطة التوقف التي يستقر فيها في مسكنه الأبدي. رحل قبل أيام أحد الأصدقاء في حادث مروري أليم، وحلت وفاته علي كالفاجعة، تذكرت آخر محادثة هاتفيه معه، يودعني بكلمات لن أنساها: «الحياة سرقتنا، حرمتنا من التواصل، سنرحل ونترك كل شيء، ولن يبقى إلا العمل الصالح»، مازحته: «الحياة لم تسرقنا، بل نحن من يسرقها»، فأوجعني بكلمته التي استعدتها بعد وفاته: «قل لي وش سوينا في حياتنا، وش راح تترك لأولادك من بعدك، من يوم عرفنا بعض واحنا في ركض وتكسرت ظهورنا وما راح نرتاح أبدا». قبل أيام من وفاته كانوا يحتفلون به في الرياض بعد ترقيته في منصب وظيفي مرموق، ولم يمض أسبوع حتى فاضت روحه إلى بارئها، وعاد لمسقط رأسه مسجى جثة هامدة منقولة من الرياض إلى الطائف، واليوم ندعو له بالمغفرة والرحمة. تلقيت الخبر الفاجعة، غير مصدق بأن الموت خطفه في لمحة بصر، رحمك الله يا صديقي الذي كنت تلمح بأن الراحة ليست في الدنيا بل في الآخرة، فالموت يأتي سريعا دون سابق إنذار، وقد لا يحقق الإنسان مبتغاه من الدنيا، يخطفه من بين أسرته، يترك خلفه كل ما جناه من مال ومنصب، فالموت آت لا محالة لأنه وعد الحق. فماذا أعددنا لذلك اليوم ولمسكن العمر الصغير الذي لا يحتاج لقرض ولا أرض ولا رصيد بنكي ولا حافز ولا شهادات ومناصب، بل يحتاج إلى عمل بسيط وميسر ويكون وقتها على استعداد مدى الحياة لليوم الموعود. سيحل الأجل علينا ولا نعلم متى سنموت، البعض مستعد له في أي وقت، والبعض الآخر لم يستعد لا بعمله ولا بصدقة جارية ولا بعلم ينتفع به ولا بولد صالح يدعو له، نسمع عن فلان مات بالسكتة القلبية، وثانٍ مات في حادث مروري، وثالث مريض، ورابع طاعن في السن، تعددت الأسباب والموت واحد فاضت النفس إلى بارئها. روي أن ملك الموت دخل على داود ــ عليه السلام ــ فقال: من أنت؟، قال ملك الموت: «أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة»، قال: «فإذا أنت ملك الموت»، قال: «نعم»، قال: «أتيتني ولم أستعد بعد»، قال: «يا داود أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟»، قال: «مات»، قال: «أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!». نتداول على هواتفنا رسائل كثيرة، ومن أجملها التذكير بالموت وفيها وعظ شديد، وأورد منها: «عجبا لك يا ابن آدم عندما تولد يؤذن في أذنك من غير صلاة، وعندما تموت يصلى عليك من غير أذان، تولد لا تعلم من الذي أخرجك من بطن أمك، وعندما تموت لا تعلم من الذي أدخلك إلى قبرك، عندما ولدت تغسل وتنظف، وعندما تموت تغسل وتنظف، عندما تولد لا تعلم من فرح واستبشر بك، وعندما تموت لا تعلم من بكى وحزن عليك، في بطن أمك كنت في مكان ضيق ومظلم، وعندما تموت تكون في مكان ضيق ومظلم، عندما ولدت تغطى بالقماش ليستروك، وعندما تموت تكفن بالقماش أيضا ليستروك، عندما ولدت وكبرت يسألك الناس عن شهاداتك وخبراتك، وعندما تموت تسألك الملائكة عن عملك الصالح فماذا أعددت لآخرتك؟». ما أروعنا عندما نتداول الرسائل عبر الهواتف ونخصص لها قروبات ونجمع فيها الأصدقاء والمعارف، ولكن هل نتعظ من كل ما يردنا.. وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.