باتت وسائل التواصل الاجتماعي منبراً فعلياً للتعبير عن آراء وأفكار وإعلان مواقف من هذه القضية أو تلك، صار في الامكان تكوين انطباع عن اتجاهات الرأي العام من خلال ما يكتبه الناس عبر وسائطها المتعددة، لا سيما شريحة الشباب الأكثر حضوراً وتفاعلاً مع ميديا حديثة تتحول تباعاً الى ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. أنماط العيش نفسها صارت لدى فئات واسعة محكومة بما تفرضه تلك الوسائل من أساليب و»طقوس» حياة جديدة أو مستجدة، ولعل اشارةً الى موقع انستغرام تفي بالغرض وتشرح ما نرمي اليه، حيث الصورة لغة أخرى تحتل صدارة الكشف (أو التعبير) عن وقائع عيش كثيرين. ثمة كتب ودراسات تتناول الميديا الحديثة وما تركته من أثر على علاقات بني البشر، وما من شك في أن هذا الأثر آخذ في التوسع والازدياد، كلما شاع تطبيقٌ معين جاءتنا التكنولوجيا الحديثة بتطبيق آخر طغى على سابقه، الرسائل النصية، على سبيل المثال، سادت ردحاً لا بأس به ثم تراجعت كلياً مع ولادة الواتس آب الذي ما إن أضاف ميزة التخابر الصوتي حتى بهتت رسائله النصية وهكذا دواليك: جديدُ اليوم قديمُ الغد. مَن يذكر زمن الكاسيت: المغتربون المهاجرون بحثاً عن فرصة عمل ولقمة عيش، يراسلون ذويهم بواسطته، يسجلون عليه آخر أخبارهم ومستجداتهم، يبثون أحبتهم لواعج شوق وحسرات فراق. تلك وسيلة اتصال انعدمت كلياً، أما ساعي البريد فأمسى في خبر كان. مَن يذكر الصورة الفوتوغرافية المطبوعة وآلات التصوير المحتاجة أفلاماً يتم تحميضها وتظهيرها في نسخة «نيغاتيف» قبل طباعة ما تتضمنه من صور ولقطات، مَن يذكر ألبومَ صور كان كلٌّ منا يحرص عليه موضباً ضمنه صوره بحسب تتابعها الزمني، وغير ذلك الكثير من وسائل وأدوات تُنحّى جانباً ليتقدم سواها. اليوم كلٌّ منا يحمل ألبوم صوره ضمن هاتفه المحمول، يتبادله مع الأهل والأصدقاء بواسطة انستغرام وتويتر وفايسبوك وواتس آب وسواها من ابتكارات تفرض تغييرات جذرية في بنية العلاقات الانسانية. لكل قاعدة استثناء، ثمة مَن لم يصله كلُّ ما نشير اليه لأسباب شتى، منها الفقر والأمية وسواها من آفات تصيب العالم الثالث على وجه الخصوص، لكن هذا لا يحجب حقيقة أن الميديا الحديثة تتطور وتتوسع، ما هو كماليّ منها اليوم ضروري غداً، ولئن كان أهم ما قدمته الميديا البديلة كامن في هامش الحرية الواسع أمام مستخدميها (من دون اغفال مقدرة الحكومات والاستخبارات والشركات الكبرى المصنعة لها على التحكم بها)، فإن أبرز سمات الحرية الافتراضية أنها حرية عشوائية منفلتة من كل قيد أو ضابط، لكن حرية عشوائية تظل أفضل من قمع منظم أو كبت مقونن، الخشية ليست من الحرية أبداً بل من تحوّل ممارسة فعل الحرية لدى البعض الى مجرد فعل افتراضي، فما نلاحظه، مثلاً، أن «الهاشتاغ» على تويتر يكاد يحل مكان الاضراب والاعتصام والتظاهرة والانخراط الميداني في العمل الانساني والاجتماعي، وسواها من اشكال احتجاج وتكافل عملية وواقعية لا يغني عنها نضالٌ افتراضي. «الهاشتاغ» بلغة مواطني الجمهوريات الافتراضية هو وَسم أو عنوان لقضية معينة يتشارك رواد الموقع الشهير بالتغريد عليه أو عبره للتعبير عن آرائهم حيال قضية معينة تشغل المجتمع الذي ينتمون اليه، الوَسم يمكن أن يكون سياسياً اجتماعياً ثقافياً رياضياً...الخ، كما يمكن أن يكون محلياً وقفاً على بلد بذاته، أو عربياً أو عالمياً، ولعل أقرب مثال الينا وسم فرنسي بعنوان «أنا شارلي» انتشر على تويتر تضامناً مع صحيفة «شارلي ايبدو». لا يستطيع المتابع أن يتنكر لأهمية الميديا الحديثة في تكوين الرأي العام وتشكيله والتأثير عليه وتوجيهه، لكن من المفيد التذكير دائماً بأن الحياة وقضاياها الشائكة تحتاج ما هو أكثر من «هاشتاغ» لا سيما أن ثمة مَن يكتفي بكتابة جملة في عالمه الافتراضي ليرسم نفسه ناشطاً... وكفى الله المؤمنين شر القتال.