لا أستطيع أن أتخيل أن الأيام الباقية من حياتي ستمر دون أن يتصل بي صديقي الشاعر غرم الله الصقاعي، ليقرأ عليّ نصا شعريا لما يكتمل، أو يعطيني الأخبار مفصلة عن قرينيه: علي الرباعي، وعبدالرحمن سابي، أو يسرد عليّ ضاحكا تفاصيل إحدى رحلات "الثالوث" الجبلي إلى المخواة، أو إلى خميسية عبدالرحمن موكلي في جيزان، أو تفاصيل إحدى لياليهم الشاعرة في كهفهم الجبلي الذي رأيناه كثيرا، ولم نره قط، لكثرة ما حدّثنا عنه الصقاعي. لا أستطيع أن أتخيل ملتقى ثقافيا دون أن أرى غرم الله الصقاعي يسير على رخام أرضية بهو الفندق المنبسط صاعدا، كما اعتاد أن يسير صاعدا جبال الباحة منذ خلقه الله جبليا أصيلا حتى في مشيته الصاعدة أبدا. بل لا أستطيع أن أتخيل ذهابي إلى ملتقى ثقافي دون أن تسبقه من غرم الله الصقاعي، رسالة: "أنت جاي، ومن معك؟". لا أستطيع - في الأيام الآتية - أن أستقبل من علي الرباعي رسالة يقول فيها: "أنا جاي أبها.. فرغوا أنفسكم"، دون أن تكون تتمتها: ".. أنا والصقاعي". أول من أمس، رحل الصديق الشاعر غرم الله الصقاعي إلى جوار ربه، تاركا أصداء ضحكته، تتردد في آذاننا، وأشذاء مودته الطاغية، تعطر أدق تفاصيل ذكرياتنا. حين سألتني الروائية عبير العلي عن مدى صحة الخبر المتعلق بـ"الصقاعي"؟ لم أحاول أن أتخيل أن "الخبر" هو وفاته، لم أحاول أن أتخيل ذلك فرارا مما ليس منه بد، لكنّ برودةً غريبة انتابت أطرافي، ورعشة لا إرادية شملت جسدي كله، أكدت لي أن الخبر هو وفاته؛ لأن للموت رائحة تشبه روائح "البنج" التي نشمها بالذاكرة، وإن لم تكن موجودة في حال استذكارها، وأعراضا تنتاب الأحياء قبل المفقودين، فأي ألم تركته يا غرم الله؟ وأي فقد هو فقد الأنقياء الطيبين؟ في المملكة، اختار المثقفون السعوديون – مرغمين - أن يصبحوا قبيلة واحدة، تتشكل من القبائل كلها، ومن المناطق السعودية كلها؛ لأنهم يشعرون بالخذلان، وبالاغتراب في مجتمعاتهم التي سيطر عليها الناعقون بخطابات إقصائية لها أهدافها المشبوهة المكشوفة، فعمل أولئك على "شيطنة" المثقفين والمبدعين في أذهان البسطاء، ليحاصروهم في الزوايا القصية، و"يخلو الجو للمتلاعبين بالعقول"؛ ولذا لم يكن أمام المثقفين السعوديين إلا أن يكونوا جسدا واحدا، تمتد أعضاؤه من الماء شرقا إلى الماء غربا، ومن الرمل شمالا إلى الرمل جنوبا، وهو ما يفسر كون فقد عضو منهم، فقدا عاماً تتداعى له أطراف البلاد بالحزن والألم، ويفسر الألم الشامل الذي شعر به أفراد قبيلة المثقفين السعوديين كلهم، لفقد غرم الله الصقاعي، رحمه الله وأسكنه جناته الفسيحة.