لطالما كان حلم الإنسان توثيق معرفته البشرية في وعاء موحد، يستطيع العودة إليه بشكل منهجي ومنظم، وليكون هذا الوعاء مصدرا معتبرا للإجابة عن أي سؤال مهما كان، وبالذات إذا كان ذا طبيعة بسيطة، مثل: ماذا ومتى وأين وكيف؟ وهكذا ظهرت الموسوعات في أغلب الحضارات الإنسانية، وكانت في البدايات مجرد كتب ضخمة، تركز على مجالات محددة، ولم تكن بالشمول الذي ظهرت به الموسوعات في القرون المتأخرة. هذه الموسوعات مع مرور الزمن أصبحت مصدرا لفهم الخلفيات الأولية للعلوم والمعارف، سواء للدارس أو الباحث أو حتى الخبير، ذلك أنها أضحت تميل للاختصار ودقة التنظيم، وذلك بترتيب المعلومات حسب الترتيب الهجائي للمواضيع أو الأعلام. وتعتبر موسوعة "بريتانيكا" أو الموسوعة البريطانية إحدى أقدم وأضخم الموسوعات في العالم، إذ صدرت لأول مرة عام 1768 في مدينة أدنبرة، ثم نمت بسرعة فائقة، حتى وصل عدد مجلداتها إلى 20 مجلداً بداية القرن الثامن عشر، وجذبت عددا متنوعا من الكتاب والمتخصصين، واستمرت في التضخم وتباعد سنوات النشر، عطفا على صعوبة تحديث المادة وضخامة حجمها، التي وصلت إلى 40 مليون كلمة تشرح نصف مليون مقالة! بيد أن هذه الموسوعة، وكحال جميع الموسوعات المطبوعة الأخرى، واجهت مشاكل تمويلية متتالية وصعوبات إدارية، حتى اضطرت عام 2012 إلى أن تعلن عن توقف إصدار طبعاتها الورقية، على أن تستمر بالصدور بشكل رقمي! بالطبع وخلال السنوات الماضية ظهرت محاولات عديدة لبعث موسوعات ضخمة تكون متوفرةً على شبكة الإنترنت، وكان أولها موسوعة "إنتربيديا"، Interpedia التي أتاحت للمستخدمين لأول مرة أن يضيفوا مقالات ومواد جديدة، وأن يصنفوها تحت تصنيفات محددة مسبقاً، بيد أن "إنتربيديا" - للأسف - لم تغادر مرحلة التجريب قط! في تلك الأثناء كان "جيمي دونال" يعمل على تطوير نموذجه "الإنترنتي" من الموسوعات، فكونه رجل أعمال مغامرا، جعله يتجه بحدسه دوما إلى الإنترنت في مشاريعه المبتكرة، التي بدأها أولاً بتأسيس البوابة الإلكترونية الإباحية "بوميس" والتي كانت تشمل - أيضاً - فرعاً لبيع المصنفات الموسيقية، ثم انطلق بخلفيته العلمية نحو استغلال الفراغ العلمي في الشبكة العنكبوتية، وحاجة جمهورها الناهم إلى أي مصدر معلومات ممنهج ومنظم، على عكس ما كان متوافرا في منتديات الدردشة، أو في مواقع المعلومات مدفعة الثمن، والتي كانت رغم توفيرها لمعلومات واسعة وموثقة، إلا أن قدرتها على التوسع والتحديث لم تكن سريعة بما فيه الكفاية، فكان أن أطلق مشروع موسوعة "نوبيديا" بين عامي 2000 - 2003، لكنه سرعان ما وجد أن السرعة والتوسع أمران يحتاجان أعداداً هائلة من الباحثين تفوق قدرته المالية والإدارية، فكان لا بد من ابتكار طريقة جديدة لرفد مشروعه الموسوعي فخرج بفكرة فتح المشاركة للجميع عبر "ويكيبيديا"، بالمشاركة مع "لاري سانجر" الذي كان رئيس تحرير للموقعين السابقين، وهكذا بدأت "ويكيبيديا" في 15 يناير 2001 كمشروع متمم للمشروع السابق "نيوبيديا"، التي كانت معتمدة على تحرير خبراء مدفوعي الثمن، لتظهر فكرة "ويكيبيديا" إلى السطح، والتي كانت في البداية فضاء مفتوحا يدعم المادة العلمية لـ"نيوبيديا"، لكن المفاجأة غير المتوقعة في التسارع الشديد لعدد المقالات المحمّلة في "ويكيبيديا" سرّع كثيراً من نهاية "نيوبيديا"، وأدى إلى بزوغ عصرٍ جديد من الموسوعات البشرية. وهكذا ظهرت لأول مرة في التاريخ موسوعة لا تتوقف عن النمو ولا ثانية واحدة، ويمكن الوصول إليها مجاناً من أي مكان ودون أي شروط تسجيل مسبقة، بل تفوقت على كل ما سبقها من موسوعات بتوفرها بـ287 لغة مختلفة، وهو السبق الذي جعل مؤسسها يصف موسوعته بأنها "مجهود لإنشاء وتوزيع موسوعة ذات أفضل جودة ممكنة لكل فرد على الكوكب بلغته الأم"! رغم أن اللغة الإنجليزية لا تزال مسيطرة على أكثر من نصف محتواها، بينما للأسف لا تزال لغتنا العربية دون مستوى الآمال، إذ إنها لا تزال تستقبل 1% فقط من زوار الموسوعة! لكن موسوعة "ويكيبيديا" لا تزال تعاني من انتقادات المجتمع الأكاديمي كون كثير من موادها تنقصها الموثوقية، لأن من قام بكتابتها وتحريرها أشخاص مجهولون ولم يتم تدقيقها من قبل خبراء، وهذا صحيح من جهة ولكنه غير صحيح من جهة أخرى، لأن الموسوعة مفتوحة للجميع دون استثناء وأن المعلومة الخاطئة سوف يتم تعديلها من الجمهور العام بشكل سريع، دون إغفال وجود مشرفين متطوعين يقومون بمراجعة المواد المثيرة والأكثر قراءة والتأكد من صحة معلوماتها، ولكن لا بد من التأكيد هنا أن "الويكيبيديا" قد تكون مصدراً أولياًّ للمعلومات، لكن يجب على الباحث أن يقرأها بنظرة نقدية، وأن يميز الغث فيها من السمين بشكل علمي ومنهجي. بالطبع سبق وأن ظهرت موسوعات عربية عدة مثل موسوعة "الغد" قبل حوالي الأربعين عاما، وموسوعة الحضارة العربية الإسلامية، والموسوعة العربية العالمية التي مولها الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله - لكن جميع تلك الموسوعات أصابها ما أصاب غيرها من الموسوعات العالمية، فلم تستطع الاستمرار أو التحوّل إلى الشكل الرقمي، لذا تبرز أهمية وضرورة دعم المحتوى العربي في "الويكيبيديا"، والذي لا يزال دون المستوى المتوقع، عطفاً على تجاوز أعداد المتحدثين باللغة العربية 422 مليون شخص في العالم، والاستفادة من وجود نسخة عربية من هذه الموسوعة العظيمة، وضرورة إعادة بعث مبادرة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بإثراء المحتوى العربي في "ويكيبيديا"، لأنها وبكل بساطة أمست المصدر الأساسي لمعلومات غالبية متصفحي شبكة الإنترنت.