المعرفة هي الكنز الثمين الذي يحمله الإنسان دون أن يعرف قيمته الجميع، فالنظرية الاقتصادية تحدد ثمن كل شيء بنقطة لقاء العرض والطلب لتتغير حركة هذه النقطة وفقاً للتأثيرات التي تطال كل جانب، والحديث السائد عن اقتصاد المعرفة حالياً في المجتمع ما يزال يتمحور حول نتائجه النهائية من سلع وخدمات بعيداً عن حاضنته الفكرية والوعي الذي يشكل تجاربه. لن أتناول في مقالي هذا الاقتصاد المعرفي النظري الذي تسوقه الكتب وأدبيات الاقتصاد، بل سأتناول جانب معرفة الإنسان وقدرته على الاستثمار في وعيه وخبرته لإنتاج القرار الاستثماري الناجح وفق اكتشافه لأخطائه وبحثه لتصويب معرفته ومهاراته، ولعلي أقدم في هذا المقال نصيحة تترجم الوعي بالاقتصاد المعرفي لمن اختاروا طريق سوق الأسهم باعتبارهم اليوم يشهدون حالة من الأمل والألم باخضرار المؤشر واحمراره، فأكثر النصائح مضياً في الأثر تلك التي يتزاوج فيها الوعي والمعرفة والتجربة، وسأسوق هنا تجربة مستثمر تعد تجربته مدرسة تنهل منها أجيال «Wall Street» والأسواق العالمية عموماً. Nicolas Darvas قد لا يكون اسماً متداولاً لدى المستثمرين في أسواق المالية العربية رغم أنه صنف كتاباً يعد ثالث ثلاثة في الوعي الاستثماري العالمي في أسواق المال المرتكز على التجربة والوعي بعنوان «How I made 2 million $ In Stock Market», الكتاب صدر عام 1960 وهو ما يفسر عدم الاطلاع الواسع عليه من قبل كثيرين من القافزين إلى عربة الأسواق من الأجيال الحديثة في منطقتنا، والذين طحنتهم عجلة التسارع في البحث عن كل جديد. لكن من يدرك كنه السوق يعلم يقيناً أنه القديم المتجدد أو الجديد المتقادم، فهو ليس أكثر من أحلام الناس وآمالهم وعواطفهم التي تترجمها الأرقام والمؤشرات في كل زمن وكل مكان! وقد اخترت تجربة نيكولاس دارفاس لأنه الأقرب إلى تجارب المستثمرين في أسواق المال العربية، وسيجد فيه المستثمر بدايات تجربته ودروسه العملية وأخطائه واستثماره في المعرفة التي أجزم أن كثيراً من المستثمرين في سوقنا وأسواقنا قد مروا بها خطوة خطوة رغم أن الكتاب قد صدر في ستينيات القرن الماضي! بعيداً عن عمالقة السوق التاريخيين مثل Warren Buffett وBenjamin Graham وPeter Lynch، وغيرهم، المثير في تجربة نيكولاس أنه لم يدخل إلى سوق الأسهم مختاراً ولا عارفاً به، بل كانت الصدفة وحدها بوابته. فالراقص الهنجاري الذي غادر بلاده إلى نيويورك تفاجأ باتصال هاتفي يقدم له فرصة عمل جيدة في كندا، وهناك قدم له صاحب العرض عقد عمل يتضمن ملكية عدد من الأسهم في شركة لا يعلم حتى اسمها ثمناً لعمله!، لكن انحسار الخيارات والظروف الاقتصادية وحبه للموسيقى والرقص الاستعراضي جعله يقبل بالأمر دون دراسة أو تردد!... , بدأ نيكولاس عمله ونسي حتى ملكيته لهذه الأسهم ليتفاجأ صبيحة يوم وهو يقرأ الصحيفة أن الـ4000 دولار قيمة أسهمه قد أصبحت 8000 دولار، وحينها أدرك أن ثمة قناة استثمارية يمكن أن تفاجئه بدخل يتجاوز حساباته! جزرة الربح الأولى دفعت الراقص الهنجاري الأصل إلى أن يتسول التوصيات ويتابع الإشاعات من مرتادي المطعم الذين يتوسم فيهم الفهم والمعرفة بالسوق ليتلقى أول درس بأن القرار الاستثماري ليس توصية معلبة من خبير متوهم أو إشاعة مزعومة، فانتقل إلى الوسطاء والشركات وتقاريرهم التحليلية ليتلقى دروساً وخسائر جديدة، ثم قرأ كتب الاستثمار والمال وكان ينفق ساعات طويلة في القراءة والتمحيص والإنصات لأصحاب المعرفة والخبرة, ومن ثم أسس سجلات ترصد تجربة قراره الاستثماري وسلوك الأسهم ليصل إلى يقين بأن التغيرات والتحولات وآثارها الاقتصادية في القطاعات المختلفة تنجبها الأسهم وتحبل بها ولو بعد حين فيتطور ذلك الفهم العميق إلى مقارنة الأسهم بالبشر!... كان نيكولاس يدرك بعد كل تجربة أن ثمة غياباً لتفسير اتجاه ما قاد خطاه إلى الطريق الخطأ، وكان يعلل بعضها بأنه اشترى السهم الصحيح في الوقت الخطأ، وحينها بدأ يطرح أسئلة عميقة حول أسباب تحركات الأسهم! لن أسرد كامل تجربة الرجل لأنها تتضمن دروساً عميقة وتفاصيل أعتقد أن المهتمين بسوق الأسهم يعيشونها ويشعرون بوطأتها، لكن العبرة منها أن كل تجربة تمر عليه كانت تطرح أمامه عدداً من الأسئلة التي تبني قراره الاستثماري القادم، وكان يسعى إلى تطوير أدواته ومعرفته لمجابهتها!... وكان الشعور بالقوة والثقة في الحدس يقوده إلى الشعور بأنه نابليون المال كما وصف نفسه الآن أنه الدرس الأهم الذي وصفه بأنه الأخطر في السوق حيث يفقد الإنسان بالاستسلام له كل معرفته ومهاراته، فالأرباح ليست دائماً الطريق الأوحد! أتمنى على كل من اختار أن يتجنب الاعتماد على المؤسسات المالية وبيوت الخبرة المعتمدة في استثمار مدخراته أن يستفيد من تجربة هذا الرجل الذي قال: آمنت من خلال تجربتي بأن الحظ قد يأتي مرة أو مرتين لكني أدركت بأنه لا يمكن الوثوق به دائماً!، كما آمنت أن السوق لم يقسُ عليَّ بخسائره بقدر ثقتي في الحدس غير المبرر والمشاعر غير المنضبطة! ... وقال: إن البراعة في سوق الأسهم تكمن في انتظار الفرص بغض النظر عن الوقت الذي تستغرقه, وإن الأسهم كثيراً ما ترتفع أو تنخفض دون أن تحمل في رحمها أي فرص! شخصياً أعتقد أن عمل الراقص الهنجاري ووعيه بأن لكل حركة إيقاع وخطوة تترجمها قادته إلى تعلم الخطو في سوق الأسهم, وتصحيح مساره ذاتياً, وهو ما جعل مجلة التايمز تزوره في بيته وتمحص تجربته من قبل كبار محرريها الذين أدهشتهم تلك التجربة الفريدة, وشككوا في أجزاء منها حتى فتح كل أوراقه أمامهم ليثبت أن تجربة الوعي والخبرة والمعرفة قادرة على أن تحقق النجاح، وكما أثبتها في سوق المال، عاد نيكولاس إلى الرقص بكامل حيويته في نيويورك أيضاً بعد أن أصيب في إحدى عضلاته بعد نصيحة الطبيب له بألا يرقص بعد اليوم، ليثبت بأن الأطباء أيضاً يخطئون كما يخطئ خبراء وول ستريت، وكأن لسان حاله يقول: إن نجاح الإنسان إرادته ووعيه المستند إلى خبرات الأسئلة والبحث لتصويبات الإجابات لا تراكم السنوات!