ذكرنا في المقال السابق كيف أن واقعة: خروج الشيخ أحمد الغامدي مع زوجته في الإعلام الفضائي كانت واقعة مفصلية/ استثنائية في سياقها، إذ تماسّت مع أكثر المسائل حساسية في وعي المجتمعات التقليدي (= قضية المرأة)؛ لأن المرأة في المجتمعات التقليدية المُتزمتة هي أقنوم المحرمات. وقد بقي كثير من النقاط التي سنحاول التفصيل فيها، بحيث نستكمل بها النقاط السابقة، مما هو في سياقها؛ ولا يمكن فصلها عنها. وهي – اختصارا – في النقاط التالية: 5- كنا قد أشرنا إلى كون تلك الخطوة الجريئة لا يمكن فهمها من حيث كونها تكشف عن الوعي المتأزم في مسألة كشف الوجه تحديدا (التي هي مسألة جزئية)، وإنما فهمها الأعمق يتحقق في التعاطي معها بوصفها مسألة استشكالية تكشف عما هو أكبر منها؛ مقارنة ببقية المسائل التفصيلية الأخرى، كما تكشف - من جهة أخرى – عن طبيعة العقل الفقهي السائد، وعن مستوى الوعي الاجتماعي، ومدى تقبّله للخلاف، الذي هو (= الوعي الاجتماعي) يتفاعل – جدليا - مع ذلك العقل الفقهي. فهي – في هذا السياق - مسألة كاشفة، مسألة قادرة على إضاءة أكثر العتمات عماءً في وعينا، وعلى أن تعري حقيقة تحيّزاتنا، من حيث مواقفنا العامة من التشدد ومن الاعتدال. كلنا كُنّا – ولا نزال – ندّعي الاعتدال في طرحنا الفكري، وفي ممارستنا العملية، ونغضب ممن يصفنا بالتشدد والانغلاق. ولكن، بمجرد أن وجدنا أنفسنا أمام هذا التحدي العملي، اتضح لنا أننا – في خطابنا التَّديّني – كثيرا ما نجنح إلى أشد صور التشدد تطرفا، بدليل أننا نتعصب – أشد ما يكون التعصب نزقا - لرأي أحادي، نافين – في الوقت نفسه - كل الخيارات الأخرى المتاحة فقهيا من فضاء التطبيق العملي. أي أننا عند المحك، اكتشفنا أننا نُجرّم الآراء/ الفتاوى التي تختلف معنا؛ مهما كانت معتبرة في المدونة الفقهية؛ مما يترتب عليه – عمليا - إدانة أكثر 99% من المسلمات على امتداد العالم. نحن نُدين أكثر من 99% من المسلمات، ونصفهن – صراحة أو ضمنا – بالتبرج، وربما بالانحلال، ثم ندّعي – بكل بجاحة – أننا لسنا متشددين، وأننا نتبنى خطاب الاعتدال الديني! 6- أيضا، هذه المسألة لها طابع شمولي من حيث هي حكم قابل للتطبيق، لا يختص بمجموعة أو فئة، وإنما يشمل نصف أفراد المجتمع. أي هو حكم – أيا كان الموقف منه – يدخل في تفاصيل حياة كل أسرة، ولا يستثني أحدا. فالمرأة - أو وَليّها ( لشريحة: "وليّ أمري أدرى بأمري"!) - ستجد نفسها مجبرة على التعاطي مع الحدث قبولا أو رفضا. وبناء على القبول أو الرفض، سيتحدد سلوك 50% من الشعب (= النساء) على نحو مباشر، وسيحدد سلوك كل الشعب على نحو غير مباشر، سواء على مستوى القبول الفكري والتطبيق العملي، أو على مستوى القبول الفكري، المؤجل للتطبيق؛ تبعا للظروف. إنها مسألة عمومية، وليست كغيرها من المسائل التي لا تطال إلا فئة بعينها، فهي – مثلا - تختلف عن بعض الفتاوى الصادرة في قضايا التأمين أو قضايا البنوك. هي مسألة سيشكل الموقف منها سلوك كل امرأة، وبالتالي، سلوك كل أسرة، فضلا عن سلوك تيار المتدينين الذين سيجدون أنفسهم في مجتمع يتشظى على خيارات متعددة، إن لم تطالهم هذه الخيارات من قريب، فستطالهم – لا محالة – من بعيد. أقصد أن الخيار للفرد سيتقاطع مع الخيارات المختلفة للآخرين، فالمرأة التي تقتنع بوجوب التغطية مثلا، ستجد نفسها أمام خيار لأختها أو لزميلتها أو لجارتها أو لأخت زوجها... إلخ، يختلف عن خيارها، وستجد نفسها مجبرة هي وزوجها على التعاطي معه، ليس كواقع فحسب، وإنما كواقع تشرعن بقوة الفتوى الدينية، والعكس صحيح، فالمرأة التي تتبنى فتوى الكشف ستخوض غمار هذا التقاطع الاجتماعي المليء بكثير الحرج الذي سيأخذ أكثر من مسار. المهم، أن هذه المسألة التي ستتقاطع مع تفاصيل الحياة اليومية لكل امرأة، ومن ثم لكل بيت في هذا الوطن، ستقوم بدور حاسم – رغم مسيرته التَّدَرجيّة – في تغيير كثير من مؤشرات التغيير، بل ستعيد خلق واقع اجتماعي جديد مختلف عن واقعنا اليوم، إذ ستضمر – وتدخل في طور التحلل وصولا إلى التلاشي النهائي– واقعة تغييب المرأة عن الفضاءات العامة، تلك الواقعة الإقصائية/ للاإنسانية/ اللاطبيعة التي تقشعر من برودتها كل مفاصل الواقع الاجتماعي. 7- بناء على ما سبق من إيضاح شمولية هذه المسألة رغم جزئيتها، يتضح أنها مسألة ستفتح أبواب ونوافذ كثير من المسائل الدينية والاجتماعية. فغطاء الوجه ليس مجرد قطعة قماش تضعها المرأة لتستر بها وجهها، بل هو فعل رمزي إلى أقصى حد. إنه يعني في تمظهره العام أن التيار المتزمت يحكم الحراك الاجتماعي،، يحكم وعي المجتمع (فيحكم تصرفاته/ سلوكياته) من حيث هو يحكم وعي نسائه، أو وعي رجاله من خلال علامات نسوية يتحكم فيها. ولهذا، ستجري بسبب ذلك تحولات نوعية في مسارين: أ - مسار التحولات الرمزية، حيث رمزية الغطاء تقود - أو تحرك بقوة حضورها – مجموعة من المرموزات التي تتعلق بالشأن النسوي، أو تتقاطع مع حضوره في الفضاء الاجتماعي العام. فالمرأة على مستوى اللغة مثلا – وهي مخزن الترميز الأكبر – لن تصبح عورة، لن تغيب على مستوى الإشارات والكنايات والتسميات... إلخ. لن يُغيّب الرجل الرمز الأنثوي المتعلق به بعد أن أصبح المرموز بذاته حاضرا، لن يخجل الرجل من ذكر اسم أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته، ولن يسعى لتغييبه كرمز لغوي عن فضاء الواقع اللغوي؛ بعد أن أصبح وجهها (العلامة الأقوى والأعمق والأصدق) حاضرا في الواقع العملي/ المُتعيّن. ب - هنا مسار التحولات الواقعية/ العملية/ التطبيقية. فمما لا شك فيه أن غطاء الوجه كان أكثر من حاجز/ مانع يفصل بين وجه المرأة وعيون الناظرين لتحجيم مشاغبات الإثارة المتوهمة أو الواقعية! لقد كان غطاء الوجه إعاقة نسوية عامة، كان قيدا على الحرك النسوي الطبيعي في الفضاء الاجتماعي، بما في ذلك فضاءات العمل/ الإنجاز/ التنمية، بل وفضاءات الحراك الترويحي الذي قد يبدو – في الظاهر - كهامش يطرأ على متن الحياة، بينما هو هامش يؤسس للمتن، إلى أن يصبح – في مساره الأعمق – الفعل الذي يعكس معنى الحياة. 8- يتساءل كثيرون: لماذا كانت خطوة الشيخ أحمد الغامدي على هذا المستوى من التأثير الحاسم، التأثير الحاصل والمتوقع؟ ولماذا أثارت كل هذا الغضب الجنوني الصادر عن جماهير التقليدية تحديدا؟ خاصة وأنه لم يكن أول شيخ أفتى بذلك، وزوجته لم تكن أول امرأة تنقل الفتوى من حيز التنظير إلى حيز التطبيق، فهناك نساء كُثرٌ، سواء في الفضاء العمومي، أو مجالات العمل العامة، فضلا عن مجالات الإعلام المرئي، أخذن بفتوى جماهير العلماء بجواز الكشف. وفي تقديري أن هذه الخطوة، كانت مثيرة حدّ الغضب، وكانت مُهمة بحجم ما ستحدثه من تغيرات؛ لأسباب أهمها: أ - كون المصادمة هنا جاءت في أشد الأمور حساسية للمجتمع المحافظ/ التقليدي، أي في موضوع المرأة، حيث ملتقى العُقد الاجتماعية؛ فنقض بذلك أشد مرتكزات التزمت، لا في سياقاتها الفكرية فحسب، وإنما في تمظهرها العلاماتي الأوضح أيضا. ب - كون هذه الخطوة المصادمة جاءت على يد شيخ ديني، بل شيخ من صلب التيار السلفي المحافظ، سبق له العمل طويلا في أشد المؤسسات رقابة، فضلا عن كونه من طلاب العلم الشرعي المشهود لهم بالتتلمذ على شيوخ السلفية الكبار. وهذا ما يعطي خطوته طبيعة التمرد الداخلي التي تكون أكثر إيلاما وإحراجا بمراحل من المساءلات الخارجية التي يسهل تصنيفها في دائرة: صراع التيارات. ج - كونها خطوة تنظيرية قوية (باستنادها إلى مقولات أئمة العلم الشرعي في التراث الفقهي) مشفوعة بتطبيق واضح وحاسم، وعلى أعلى مستويات الانتشار. إنه تطبيق يأخذ أعلى درجات التطبيق وضوحا وحِدّة، بل وتحديا. ولعل هذا هو أشد ما أزعج التقليديين، الذين كانوا من قبل يتحدون الشيخ الغامدي في أن يمارس ما يُفتي به، فكان قبوله التحدي صاعقا لهم. لقد قبل التحدي، وفاز به بنجاح قاهر، مخرسا كل تخرّصات أولئك الذين كانوا يشككون في قناعته بنتائج بحثه العلمي في هذا الموضوع. بل إن خطورة هذه الخطوة التطبيقية لا تقف عند هذا الحد الذي وصل حد الصدمة الصاعقة لتيار التزمت المتطرف، بل إنها تتعداها إلى الأثر العميق في الواقع، إذ هي خطوة ستجعل المجتمع على محك التنفيذ العملي لقناعاته، لا في هذه المسألة فحسب، وإنما في غيرها، وهو كثير. إن أي خطوة حاسمة، ومؤثرة في العمق، لا بد أن تكون صادمة، أو تتضمن شيئا من روح الصدام. وما لم تكن كذلك، فلا قيمة لها في سياق التحولات الكبرى. إن كل الخطوات المفصلية في تاريخنا الفكري والتنموي كانت صادمة بدرجة ما. ورسالة الإسلام ذاتها كانت صادمة في بداياتها للمجتمع القرشي الوثني كثيرون كانوا مقتنعين بالفتوى، ولكن حجم الضغط الاجتماعي كان يجعلهم في حرج شديد من اتخاذ أية خطوة عملية في هذا الاتجاه. وبهذا، فالشيخ الغامدي يبدو كمن علّق الجرس الذي طالما انتظر المترددون تعليقه رغبة أو رهبة، والذي لم يكن من المجدي أن يعلقه أي شخص لم ينخرط في سلك المؤسسات الدينية ذات القيمة الاعتبارية في التيار التقليدي. 9- هناك من يعتقد أن ما أقدم عليه الشيخ الغامدي خطوة سابقة لأوانها، وأن فيها كثيرا من الصدامية التي قد تثير المجتمع المحافظ إلى مستويات ربما تتجاوز الأثر الإيجابي المأمول إلى آثار سلبية يصعب التنبؤ بها. وهذا – في اعتقادي – توجس غير علمي وغير واقعي، ويصدر صاحبها عن رؤية محافظة؛ مهما حاول التمظهر بالحفاظ على الهدوء العام للمجتمع. إن أي خطوة حاسمة، ومؤثرة في العمق، لا بد أن تكون صادمة، أو تتضمن شيئا من روح الصدام. وما لم تكن كذلك، فلا قيمة لها في سياق التحولات الكبرى. إن كل الخطوات المفصلية في تاريخنا الفكري والتنموي كانت صادمة بدرجة ما. ورسالة الإسلام ذاتها كانت صادمة في بداياتها للمجتمع القرشي الوثني. وبعد ذلك، كل حركة إصلاحية على امتداد التاريخ لم تأخذ طريقها إلى التطبيق العملي إلا بسلسلة من الصدمات الفكرية والعملية، التي كان أصحابها في البداية محل تبخيس وتجريم، ثم أصبحوا محل تبجيل وتعظيم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يجوز أن يتردد شيخ في تطبيق قناعاته التي يقول بها جماهير علماء الإسلامي في القديم والحديث، لمجرد أن هناك بعضَ المتعصبين لآرائهم ممن يخالفونه، والذين يعدون ممارسته لحقه في الاختلاف مصادمة لهم، أولئك الذين لن يرضوا بأي حال عن أي أحد؛ ما لم يتوافق معهم في تفاصيل ما يرونه صوابا دينيا وصوابا اجتماعيا؟! 10- أظهرت ردة الفعل على خطوة الشيخ الغامدي الجريئة أن المتزمتين ليسوا أمناء، ليسوا مؤتمنين لا على العلم ولا على الأخلاق. لقد خانوا العلم في أشد بدهياته وضوحا؛ فأنكروا – تصريحا أو تدليسا – قوة الخلاف في المسألة، وحاولوا بشتى الطرق نفي هذا الخلاف الفقهي الواسع الذي بات معروفا للجميع. ومن ناحية أخرى خانوا الأخلاق؛ فتنكروا لحق الآخرين في طرح آرائهم، وتنكروا – بصورة أعنف وأشد انحطاطا – لحقهم في تطبيق آرائهم. ولهذا صدرت عنهم أسوأ وأقذر وأشنع البذاءات التي طالت كل من يختلف معهم، إلى أن وصل الأمر حد القذف الصريح بالدياثة وبإرادة شيوع الفساد... إلخ التهم التي لم تصدر فقط عن الأتباع الرعاع فحسب، وإنما – أيضا - صدرت عن بعض المتصدرين للعلم من المنتمين إلى التيار المتزمت المتطرف. من خلال ردة الفعل المتشنجة التي تشي بحجم التعصب والتطرف الكامن وراءها، بدا الشيخ الغامدي وكأنه لم يفعل أمرا مشروعا، بل أمرا مشروعا بأقوى من درجة شرعية ما يفعله مخالفوه، بدا وكأنه ارتكب محظورا شرعيا، بل بدا وكأن هذا المحظور من كبائر المحظورات التي تستوجب الاستتابة. وبهذا لم يصبح الشيخ الغامدي ممارسا لفعل مشروع ارتضاه أئمة الإسلام، ومارسته الأغلبية الساحقة من المسلمين، وإنما تم تصويره – في خطاب المتطرفين - وكأنه يخطو الخطوة الأخطر للخروج من الإسلام! لا يستطيع العقل التقليدي المتزمت (وهو عقل خارجي تكفيري في جوهره) الذي تعرّى على ضوء ما صدر عنه من مقولات التجهيل والتبخيس والقذف والشتم، أن يدرك أن كل ما صدر عنه من تجهيل وقذف وشتم، إنما يتوجه – وبالدرجة الأولى – إلى كل علماء الإسلام القائلين بجواز الكشف في القديم والحديث. كل ما قالوه من كلام سيىء، ومن إهانات واتهامات – على اختلاف مستوياتها -، إنما يتوجهون بها إلى قامات علمية معتبرة، تُشكّل بمجموعها جمهور السلف، وعلى رأسهم مؤسسو المذاهب الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، فضىلا عن غيرهم من المتقدمين من الصحابة والتابعين. إنهم يطعنون بهؤلاء قبل أن يطعنوا في الغامدي وغيره من المعاصرين، ولكن المتطرفين لا يفقهون، ولا يعلمون أنهم لا يفقهون. 11- كشفت هذه الخطوة، وبمصادمتها للوعي التقليدي الذي تغذى على الجهالات كثيرا، حجم التناقضات الصارخة التي يسهل تصنيفها في خانة الجنون الرسمي! كشفت هذه الخطوة كذب المتزمتين، عندما يدّعون أن مصدر تزمتهم شرعي، بينما هو في الحقيقة نتاج بيئة خاصة لها أعرافها وتقاليدها، أو نتاج حركية إسلاموية لها أهدافها في الحشد والتجييش. فهؤلاء الغاضبون من الغامدي بدعوى أنه خطا خطوة نحو التحلل/ الانحلال بخروجه مع زوجته بوجه مكشوف، هم أنفسهم الذين يمتدحون – بأعلى درجات المديح والتبجيل الدعائي – ما تفعله زوجات كل من أردوغان التركي، ومرسي المصري، والغنوشي التونسي... إلخ، مع أن حجابهن أقل صرامة من حجاب زوجة الشيخ الغامدي. وبهذا اتضح حجم التناقض، وأن الإسلام هنا يجري استخدامه لتبرير المواضعات الاجتماعية المحدودة بحدود الجغرافيا، أو كأداة في الصراع السياسي الحركي، بحيث يصبح الحجاب المشروع هناك لنساء قادة الأسلمة، ليس هو الحجاب المشروع هنا! وهذا تناقض يُسقط مشروعية خطابهم من أساسها؛ لو أن هناك جماهير تُحكّم عقولها، ولا تتخذ أحبارها ورهبانها أربابا من دون الله.