×
محافظة المنطقة الشرقية

الاثنينية تكرم المؤرخ والباحث التراثي معراج مرزا

صورة الخبر

على وقع أصوات المسافرين وصخب نقل حقائبهم، كنت أشق طريقي داخل محطة «سانت بانكراس» اللندنية، لأستقل قطار «يوروستار» Eurostar الذي هو الزائر اليومي إلى باريس وبروكسيل. فمن هذه المحطة المزينة بالطراز القوطي المجدد، تنطلق القطارات من لندن باتجاه الجارة باريس، أو نحو مدينة بروكسيل التي كانت وجهتي في ذلك اليوم الخريفي. ما أن ترك القطار المحطة وبدأ مشواره في عباب لندن، حتى بدأت خدمات «يوروستار» التي تقدم الى ركاب الدرجة الأولى. ففي تلك الدرجة يستمتع المسافر بخدمات مميزة وبرفاهية السفر بالقطار. وعلى طول الطريق كنت أتأمل كيف بدأت ألوان الخريف تكسو أرضيات الحدائق والغابات، فتحول تلك المساحات إلى لوحات فنية تحتشد بالشاعرية قبل أن تصافح العين بألوانها التي تزهو بالأصفر والذهبي والقرمزي والبرونزي والبرتقالي. رحلة الساعتين بين لندن وبروكسيل وصلت إلى خاتمتها عندما أنهى القطار رحلته في محطة «ميدي» البلجيكية. وعندها ابتدأت رحلتي نحو وسط المدينة القديم. اليوم الأول كم يمر الوقت مسرعاً! هذا ما قلته في قرارة نفسي عندما وصلت ساحة الغراند بلاس الشهيرة. ففي 4 كانون الأول (ديسمبر) العام 1999، كنت بين الحشود الغفيرة في هذه الساحة لتغطية العرس الملكي للملك البلجيكي فيليب والملكة ماتيلد. وها أنا أعود إليها في اليوم نفسه، وبعد مرور 15 عاماً على ذلك الحدث التاريخي. ولكنني لم أترك تلك السنوات تفصلني عن بروكسيل وعن هذه الساحة التي لا يمر عام إلا وأقصدها مع أفراد أسرتي بسبب قرب المسافة بين لندن والعاصمة البلجيكية. ولأنني من عشاق الأماكن الجميلة، فقد تعمقت بتاريخ الساحة، وتمكنت من كشف كل ما تختزنه من أسرار وحكايات قديمة حتى أصبحت خبيراً سياحياً بهذا المكان الذي لا يمكنك الانفلات من سحره وروعة مبانيه. فحكاية تأسيس الساحة ترقى إلى أواخر القرن الحادي عشر عندما بدأت كسوق شعبية. ومع إطلالة القرن الثالث عشر، أسس دوق «باربان» آنذاك ثلاث أسواق مسقوفة على الطرف الشمالي منها لبيع الخبز والثياب واللحوم. فالهدف الأساس من وراء إنشاء أسواق مسقوفة كان ألا تمنع عوامل المناخ الناس من التبضع خلال موسم الشتاء والصقيع لكي يجمع الدوق الضرائب من وراء بيع تلك المشتريات. وبقدوم القرن الرابع عشر بدأت ملامح الفخامة والعظمة تظهر على الصروح التاريخية المترامية على أطراف الساحة. على رغم أن الساحة تمتلك مجموعة متجانسة من المباني الضخمة المزينة بحرفية عالية، إلا أن مبنى صغيراً يحمل إسم «الحمامة» Le Pigeon يشدني دائماً إليه ويستوقفني لأمضي برهة من الزمن أتأمل حجارته العتيقة. إنه المنزل الذي عاش فيه الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي فيكتور هوغو عندما هرب من فرنسا العام 1851 في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وضع حداً للجمهورية الثانية. فالشاعر الفرنسي قصد بروكسيل في تلك الفترة بجواز سفر غير شرعي باسم «جاك لانفن». ويعرف أن صديقته «جولييت دوريه» لحقت به إلى بروكسيل وفي جعبتها الصفحات الأولى من مسرحية البؤساء Les Misérables ليكمل فصولها في منفاه البلجيكي. لقد كان يوماً حزيناً في حياة هوغو عندما قرر الرحيل عن هذه الساحة التي أحب في صيف 1852، فارتجل في ذلك اليوم خطاباً شهيراً طالب فيه بأن تصبح أوروبا الولايات المتحدة الأوروبية. المؤسف أن المنزل الذي فاض فيه خيال الشاعر الفرنسي بالإبداعات الفكرية لم يتحول إلى متحف صغير تخليداً لذكراه، بل أصبح متجراً لبيع الشوكولا، وآخر لبيع المطرزات. ولكن سترحب بكم عند المدخل لوحة صغيرة كتب عليها: «فيكتور هوغو عاش هنا العام 1852». وأترك الساحة الغارقة في حكايات هوغو والشخصيات التاريخية التي مرت على أرضها، لأتسلل عبر أزقة المدينة الضيقة لشراء الهدايا والتذكارات. فهل تُعقل زيارة بروكسيل من دون حمل علب الشوكولا الفاخر من أرض الشوكولا؟ ففي أحد المتاجر المكتظة بصفوف المشترين وبأصناف الشوكولا، تسنى لي بعد حوالى 15 دقيقة من الانتظار أن أختار علبتي شوكولا حشيت حبوبها بالكريما والفريز والموز وغيرها من النكهات المختلفة. كان المساء جميلاً ودافئاً نسبياً عندما كنت أعبر الساحة من جديد متوجهاً إلى مكان إقامتي في فندق «هيلتون بروكسيل غراند بلاس» Hilton Brussels Grand Place. دخلته فأحسست بعبق الراحة والرفاهية، خصوصاً في بهوه الفسيح المليء بالنور الذي يدخل من شبابيكه الكبيرة. هناك جلست على مقعد مريح في ظلال شجرة الميلاد التي تلامس سقفه الأبيض وارتشفت فنجاناً من القهوة، قبل الصعود إلى غرفتي لتمضية ليلتي الأولى فيه. اليوم الثاني من شباك غرفتي رحت أتأمل الشمس وهي تتثاءب بهدوء تام لتنشر أشعتها الذهبية في سماء بروكسيل. ففي ذلك الصباح لم يكن لدي كثير من الوقت لإلقاء التحية على أماكن عهدتها من قبل في هذه المدينة التي تتقاسم لغتها وثقافتها بين الفرنسية والفلامنكية. فبرنامجي الصباحي كان تناول الإفطار، وجمع أغراضي، والإسراع إلى محطة «ميدي». فالبارحة وصلتها قادماً من لندن، وها أنا أعود إليها من جديد قاصداً أمسترادم. صعدت قطار «تاليس» Thalys بلونه النبيذي الداكن واسترخيت في مقعدي. وما هي إلا دقائق حتى بدأ القطار يشق طريقه شمالاً قاصداً مدينة الزنابق والجسور والأقنية والأجبان... وبالتأكيد، تستحق أمستردام أكثر من لقب، فهي أيضاً مدينة الشباب والحرية، والمدينة التي تفتح قلبها لتستقبل جميع الوافدين اليها بالحفاوة والترحاب. المسافة التي قطعتها من لندن إلى بروكسيل، كانت نفسها المسافة بين بروكسيل وأمستردام، ساعتين فقط. وكأن الخوارزمي الذي يعد من أوائل علماء الرياضيات قد حدد المسافات بين تلك العواصم ليسهل الوصول إليها براً. على متن «تاليس» لا يشعر المسافر بمرور الوقت، وبالأخص إذا كان المقعد في الدرجة الأولى حيث يحظى بسلسلة من الخدمات المميزة بينها تقديم خدمة WiFi المجانية. لا أعلم كيف كان يسير العالم قبل إطلاق شبكة الإنترنت والهواتف الذكية؟ فطوال الرحلة كنت مع غيري من المسافرين منهمكين بالتقاط الصور وإرسالها إلى الأهل والأصدقاء، أو بالقيام باتصالات الفيديو أي صوت وصورة من خلال هواتفنا الذكية، أو حتى استقبال وإرسال البريد الإلكتروني، وكأننا غدونا أسرى تلك الآلات المحمولة بين أيادينا. كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً حينما توقف القطار في محطة أمستردام الرئيسة. عندها تفرق المسافرون كل إلى جهة مختلفة. أما أنا فكانت وجهتي فندق «ولدورف أستوريا» Waldorf Astoria الذي افتتح أبوابه لاستقبال النزلاء في الأول من أيار (مايو) الماضي. «إنتبه إلى الدرجة»! كانت الكلمة الأولى التي سمعتها من البواب عند وصولي الفندق. فبعدما تسلقت الأدراج، وصلت إلى الباب الرئيس الذي ليس على مستوى أرضية الفندق، بل أعلى بقليل. وهذا ما يشكل حجر عثرة أمام بعض القادمين إليه للمرة الأولى. وعندما سألت عن سبب ذلك، قيل لي إن بلدية أمستردام لا تسمح بتعديلات هندسية على ذلك المبنى المشيّد في عصر المدينة الذهبي. والفندق ليس مجرد مبنى تاريخي فحسب، بل هو مجموعة من منازل الطبقة الأرستقراطية المبنية بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقد جمعت تلك المنازل الستة مع بعضها لتتحول إلى أحد أهم وأعرق فنادق العاصمة الهولندية. في غرفتي التي تحمل إسم «كينغ غراند لوفت» King Grand Loft في الطابق الثالث والعلوي، انتقلت إلى ماضي المدينة الجميل من خلال العوارض الخشبية التقليدية المتنشرة بكثرة حول الشبابيك وفي السقوف. فأي ضيف يحل في هذه الغرفة سيشعر كأنه في أحد منازل الريف الهولندي التراثية. لم أدع أنوار أمستردام الملونة وصخب الحياة فيها تغريني بالخروج في تلك الليلة، فقررت البقاء في الفندق والنزول إلى طابقه الأرضي لدخول عالم «غيرلان سبا» Guerlain Spa. بوصولي إلى المنتجع الصحي، صافحت أنفي عطور «غيرلان» الفواحة التي انطلقت من باريس منذ أكثر من 170 عاماً. وقد اختبرتها أكثر في جلسة تدليك بالزيوت الدافئة مع المياه المثلجة. تجربة غريبة بعض الشيء ولكنها تقدم فقط لضيوف «ولدورف أستوريا» أمستردام، لإضفاء المزيد من الخصوصية والتميز على رحلتهم. اليوم الثالث تركت الفندق ومشيت بمحاذاة قناة «هيرنغراخت» Herengracht، أي «قناة الرجال» القريبة منه، ورحت أتأمل خيالات الأشجار والمراكب التي تطبع على صفحة مائها صوراً تكاد تكون لوحات زيتية. ولهذه القناة مكانة خاصة في أمستردام، فهي أهم قنوات المدينة، لأنها استقطبت في القرن السابع عشر الطبقة الأرستقراطية والتجار الميسورين لبناء منازلهم الفخمة على ضفافها. وعلى رغم زياراتي المتكررة لأمستردام، فإنني لا أزال أقف منجذباً أمام سحر تلك القنوات والجسور والمنازل التي لا تزال تحمل ماضيها وتحافظ عليه بأدق تفاصيله. فأينما جال النظر، هناك ما يغريك ويشدك للعودة إلى رحاب هذا المكان المزنر بالقنوات التي يصل عددها إلى 165 قناة، والمحروس بالجسور التي يفوق عددها 1750 جسراً، بعضها يمكن رفعه لعبور البواخر. وهناك طرفة متداولة في أمستردام تقول إن في حال تأخر الطلاب عن موعد الوصول إلى مدارسهم، أو تأخر الموظفين للوصول إلى مقر عملهم، فإنهم يعزون ذلك إلى الجسر المفتوح في طريقهم. تابعت السير ووصلت إلى شارع الزهور «سنغل» Singel الذي تعبق منه رائحة الزهور المميزة بألوانها وأشكالها المتنوعة، بينها زهرة التوليب (الزنبق) أحد رموز هولندا. وتنتج البلاد سنوياً أكثر من 4 مليارات بصلة لهذه الزهرة التي تزين أكثرية منازل الهولنديين وأماكن عملهم. في «سنغل» صادفت أعداداً هائلة من السياح الذين يقصدونه لشراء بصل الزهور والبذور، أو لشراء التذكارات المصنوعة محلياً كالحذاء الخشبي أو القبقاب الهولندي. ومن المعروف أن هذا الحذاء المصنوع من خشب الصفصاف أو الحور، كان يستخدم في السابق من جانب الفلاحين، أما اليوم فقد أصبح يباع بكثرة للسياح. ولتأمين الطلب المتزايد على هذا الحذاء الملون بشتى الألوان، تنتج البلاد سنوياً أكثر من 3 ملايين حذاء. وفي أمستردام طبقت جزءاً من المثل الإنكليزي الذي يقول: «عندما تكون في روما تصرف كما يتصرف الرومان». فركبت الدراجة الهوائية مثل مئات الآلاف من الهولنديين، وأطلقت العنان لروح المغامرة قاصداً ساحة «لايدسبلاين» Leidseplein الشهيرة، فوجدتها كما عرفتها. إنها مكان ينبض بالفرح والسعادة. فما من سائح يقصد أمستردام إلا ويتوقف فيها لزيارتها أو لتذوق الأطباق الشهية التي تقدم في المطاعم والمقاهي التي تحاصرها من كل جانب. لا يبعد متحف «فان غوخ» Van Gogh Museum كثيراً عن الساحة، فعرجت إليه لأتوقف في مكان يفيض بإبداعات ذلك الرسام الهولندي الذي راج إسمه بعد وفاته العام 1890 وهو بعمر الـ 37 عاماً. همت في عالم «فان غوخ» وأنا أتأمل لوحاته التي تفيض بالألوان، كلوحة أزهار عبّاد الشمس، ولوحة الغربان السوداء التي اكتظ حقل القمح الذهبي بها. ويصف كثيرون لوحاته بأنها تعاني اضطراباً في الألوان، مثل حياة الرسام المأسوية القصيرة. كما دخلت أيضاً متحف «رامبرانت» Rembrandt House Museum وتجولت داخل الاستديو الذي كان يصمم فيه لوحاته، وشاهدت اللوحات التي عليها الخطوط الكبرى والتي لم يكملها ليعطيها الحياة والألوان والمعاني. وأنهيت جولة المتاحف في «رايك» Rijkmuseum الذي لا يزال منذ تاريخ افتتاحه العام 1876 أكبر متاحف هولندا. وفي رحابه كنت وجهاً لوجه مع أشهر لوحات «رامبرانت» المعروفة بـ «جولة في الليل» التي برع برسمها العام 1642، وهي تصور مجموعة من الضباط والجنود وقد أخفت الظلال أشكال معظمهم. كما يعرض المتحف أعمال رسامين هولنديين آخرين أمثال «فيرمير» الذي اشتهر بلوحة «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي»، و «فرانس هولز» الذي اشتهر بلوحة «عازف العود». ولا يبخل المتحف بتقديم مجموعة غنية من الأواني الفخارية المصنوعة محلياً، وبعض المنحوتات والفنون الآسيوية. في طريقي إلى الفندق استوقفتني متاجر الأجبان المتوزعة في شوارعها التجارية، فدخلت أحدها لأكتشف أن صناعة الأجبان في هولندا هي فن بحد ذاته. فما من نكهة تخطر على بالك إلا وتجدها ممزوجة بقالب من الجبنة ومعروض على الرفوف الخشبية لتلك المتاجر. القطار الذي نقلني من بروكسيل إلى أمستردام، حملني من جديد الى العاصمة البلجيكية التي منها وصلت لندن تاركاً ورائي مدناً أحن دائماً للعودة إلى ربوعها لأكتشف المزيد من أسرارها وخفاياها.