بعد فترة على نشر روايته «العاطفية» الكبرى «أشجان الفتى فرتر»، وفي معرض أحاديث صحافية أُجريت معه، كما في سياق الحوارات الطويلة التي أجراها معه ايكرمان ونشرت، بعد موته بسنوات، قال الكاتب والمفكر الألماني غوته انه انما جعل بطله الشاب فرتر ينتحر في آخر الرواية كنوع من التكفير الذاتي. في معنى ان غوته كان من شأنه أن يضع حداً لحياته، بسبب ظروف عاطفية ووجودية مر بها في شبابه، وكانت شبيهة تماماً بما مر به فرتر في الكتاب. كان ينحو في شبابه الى الانتحار... لكنه، اذ كتب الرواية وأنهاها بانتحار فرتر، اعتبر هذا انتحاراً معنوياً له شخصياً وبديلاً جسدياً عن انتحاره الخاص. وبهذا يكون غوته في زمنه، واحداً من أفصح الذين لم يكتفوا بأن يربطوا أدبهم بحياتهم وذواتهم، بل تجاوزوا هذا ليعتبروا الكتابة، معبرة عن الذات ونوعاً من الترياق، بل نوعاً من الإسقاط. ونعرف في هذا المجال أن عدداً لا بأس به من علماء النفس، والمحللين النفسيين لاحقاً، اشتغلوا على رواية غوته هذه، في المنطق نفسه وطلعوا باستنتاجات مهمة، علاجية خاصة، في مجال دراسة الإبداع وعلاقته بالمبدع. > الحقيقة أن القارئ الذي يعرف أعمال غوته وتوجهاته الفكرية جيداً، لن يستغرب هذا. أو بالأحرى، وبكلام أكثر وضوحاً، لن يستغرب أن يكون كاتب عقلاني ومفكر فلسفي من طينة غوته قد تمكن من أن يبدع كي يعالج نفسه مسخراً أدبه وموهبته الإبداعية الكبيرة من أجل غاية قد لا يوافق عليها كثر من المبدعين والنقاد الذين يبحثون دائماً عمّا يسمونه الأدب الخالص، والأدب النابع من غايات وجدانية أكثر مما هو نابع من غايات عقلانية واعية. ومهما يكن فإن طغيان العقل على ملكة الإبداع الخالص لم يكن أمراً انفرد به غوته، كما انه لم يكن الأخير في هذا السياق، حيث لدينا دائماً عشرات الكتاب الذين جعلوا من الأدب غاية فكرية (ولم يكن توماس مان أو مرغريت يورسنار، في القرن العشرين، أقل هؤلاء ابداعاً). غير ان اللافت في رواية «أشجان الفتى فرتر» هو أن الرواية نفسها لم تأتِ عقلانية فكرية كما قد يخيل الى المرء أول الأمر. بل هي رواية عاطفية تنتمي الى الأدب الرومانطيقي، وكان ممكناً لها أن تُقرأ دائماً على هذا النحو لولا ذلك التصريح الذي أدلى به غوته من حولها، معقلنها، وجاعلها أشبه بالعيادة النفسية. > مهما يكن فإن رواية «أشجان الفتى فرتر في نهاية الأمر رواية تنتمي الى أدب السيرة الذاتية، كما انها من الناحية التقنية تنتمي الى فرع خاص من الأدب يسمى «أدب الرسائل» وهو يتألف من نصوص تروى الحكاية فيها من خلال رسائل غالباً ما يكتبها صاحب الدور المحوري في الرواية او تُكتب عنه. وغوته كتب هذه الرواية وهو بالكاد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره - أي أنه كان تقريباً في عمر بطل روايته الشاب فرتر-. أما ما يُروى في هذا النص فإنما هو حكاية عاطفية خاضها فرتر وأودت به، قهراً ويأساً الى الانتحار. وفرتر نعرفه منذ أول الرواية وبالتحديد عبر الرسائل التي يبعث بها الى صديق له يدعى فلهلم، نعرفه فناناً شاباً سئم من حياة المدينة وتوجه الى منطقة ريفية كي يعيش حياة المزارعين ويختبر علاقتهم بالطبيعة والحياة. وهناك في تلك المنطقة الريفية البعيدة من المدينة، يلتقي الفتاة الحسناء لوت (شارلوت) التي اذ ماتت أمها تجد نفسها مسؤولة عن إخوتها. وهي في الوقت نفسه تُخطب الى رجل يكبرها بأكثر من عقد من الزمن يدعى البرت. طبعاً سيقع فرتر ذو العاطفة الرومانطيقية الجياشة والحساسية المفرطة، في غرام لوت، حتى وان كان يعرف جيداً انه حب بلا أمل... بل أكثر من هذا، نراه يرتبط معها بصداقة تشمل خطيبها البرت ليصبح صديق الاثنين حتى من دون أن يتخلى عن غرامه اليائس. ولكن هل كان حقاً يائساً ذلك الغرام؟ على رغم ان فرتر كان واثقاً من أنه سيعيش غراماً مع لوت لن تبادله اياه، وربما بسبب أوضاعها العائلية الخاصة، يظل متمسكاً بحبال الأمل. غير أنه - وكما يفيد هو نفسه في رسائله - يشعر ذات يوم بأن عليه أن يبتعد عن ذلك المكان وهو أمر توافقه عليه لوت، باعتبار البعد حلاً ممكناً لأنها - هي - غير قادرة على مبادلته حبه. وعلى هذا النحو يتوجه صاحبنا الى المدينة محاولاً أن ينسى. وفي المدينة، من أجل الوصول الى النسيان، يحاول أن يرتبط بفتاة حسناء تمت الى الارستقراطية بصلة. غير ان هذه المحاولة سرعان ما تفشل، اذ يجد فرتر نفسه مساقاً للعودة الى البلدة الريفية. وهناك - بعد أن بدا أول الأمر محملاً بآمال استغرب هو نفسه من أين استقاها-، يفاجأ بأمرين، هما في نهاية المطاف مترابطان: خلال غيابه كانت لوت قد اقترنت بألبرت. وها هي الآن تريد من فرتر أن يرحل بأي حال من الأحوال. انها لم تعد تطيق وجوده هناك. ليس كراهية له بالطبع، وانما خوفاً من أن يجرها معه في غرامه المدمر. وأمام اصرار لوت على ضرورة رحيله، ولأن فرتر يعرف جيداً أن ارتحاله الى المدينة لن يحل مشكلته، يجد نفسه وقد قرر ذات يوم ان الحل يكمن في حتمية موت واحد من الثلاثة: هو أو لوت أو البرت. ولأن فرتر لا يريد - ولا يقوى على - قتل انسان، وبخاصة لوت التي يحبها وألبرت الذي يعرف هو جيداً في أعماقه أنه لم يرتكب تجاهه شراً أو أذية، يقرر أن اذا كان ثمة من يتوجب رحيله عن هذا العالم «حتى تستقيم الأمور» فإنه هو الذي سيرحل. وهكذا بعد أن يكتب رسالة وداعية أخيرة، لن يُعثر عليها إلا لاحقاً بعد موته، يبعث رسالة أخرى يطلب فيها الى البرت أن يعيره مسدسين. واذ تقع هذه الرسالة في يد لوت، لا تتردد هذه، على رغم معرفتها بما سيفعل أو تخمينها له على الأقل - بل ربما انطلاقاً من كونها قد وضعت مثله الاحتمالات الثلاثة في الميزان ولم تر بأساً في المخاطرة، اذ بالنسبة اليها هي أيضاً لن يكون ثمة حل إلا برحيل واحد من الثلاثة-، لا تتردد من دون امداده بالمسدسين. وهكذا ما إن يتلقى فرتر هذين المسدسين ويفهم، في شكل لا رجعة فيه، رسالة لوت، يطلق النار على نفسه ويسقط قتيلاً، ولكن فقط بعد أن يكون الذين أحبهم وأراد دائماً أن يحبوه قد اجتمعوا من حول جسده المحتضر. واذ يموت فرتر ترفض الكنيسة الصلاة على روحه، لأن انتحار المرء، ولأي سبب كان، لا يستقيم مع المعايير الدينية. والواقع أن هذا كله - أي كل ما يلي انتحار فرنز، لا يروى لنا - طبعاً - من طريق رسائل «اضافية» يبعث بها الى صديقه فلهلم، بل يروى لنا مباشرة كخاتمة لتلك الرواية الموزعة على مجموعة الرسائل والتي تحكي كل رسالة فصلاً من فصولها، وغالباً من دون أي تدخل من فلهلم. > للوهلة الأولى ثمة الكثير مما يوحي بأن غوته يتمثل في الرواية بشخصية فلهلم، ما يعني انه هنا انما يتحدث عن حياة وغرام وانتحار صديق له عرفه في شبابه، غير أن هذا ليس صحيحاً. أو على الأقل لم يعد يبدو صحيحاً منذ عُرفت سيرة غوته على نطاق واسع، وحملت السيرة حكاية حب تتماثل تماماً، مع حكاية حب فرتر لشارلوت، ثم حين عُرف لاحقاً أن غوته في شبابه أغرم حقاً بحسناء تدعى شارلوت (لوت). ومن هنا اعتبر غوته في هذه الرواية واحداً من أجرأ الكتاب الذين تجرأوا على تعرية أنفسهم وعواطفهم في أدبهم. وإضافة الى هذا اعتبرت «أشجان الفتى فرتر» واحدة من أجمل أعمال غوته الأدبية وقطعة مميزة من قطع الأدب الرومانطيقي خلال القرن الثامن عشر، قرن الرومانطيقية الأوروبية بامتياز. > والحال ان من يعرف عقلانية وعلمية وجدية معظم أعمال يوهان وولفغانع فون غوته (1749 - 1832) سيصعب عليه تصديق ان هذا المفكر العملاق الذي كتب واحداً من أعظم النصوص المسرحية الفلسفية في تاريخ الأدب («فاوست»)، وكتب دراسات حول نظرية الألوان ومعنى الفن والنباتات وحول الأخلاق والمنطق وما شابه، يمكن أن يكون هو من خط تلك الصفحات المفعمة بالعواطف الوجدانية وصور اللحظات القاسية والحب الجارف.