عندما كنت صغيراً، كنت أشعر أن حدود العالم هو حدود الحارة التي كانت الأسرة تسكنها في حي النعاثل بمدينة الهفوف، تلك الحدود توسعت بعدما كبرت حتى أصبحت تشكل العالم بأسره، عندما أذكر رحلتي مع "التوسع الجغرافي" أشعر بأن العالم صار يصغر في عيني وأن الإنسان بطبعه شديد التطلع للجديد، ولا يجذبه "التنميط" والتكرار، ولديه رغبة جامحة في التغيير والبحث عن الجديد، لكني أعود مرة أخرى وأتذكر أن حياتي تحكمها قواعد "روتينية" واضحة فأنا محكوم بمجال مهني ونمط عمل وفضاء اجتماعي وشعائر "تكرارية" نمطية هي التي تشكل شخصيتي وهي التي تحدد ملامح حياتي الحقيقية، أما التغيير الذي أبحث عنه والجديد الذي يشعرني بالمتعة والجغرافيا التي تتوسع كل يوم فهي جزء من الممارسة العقلية/الذهنية وليست ممارسة مباشرة أعيشها جسدياً واجتماعياً، هي رغبات غائرة في النفس تنطلق من عقالها لتخوض نزوات "افتراضية" أما الواقع فتحكمه مجموعة من القوانين "الروتينية" التي تحدد نمط الحياة اليومية وتصنع حدودها الجغرافية وتحدد ملامحها الاجتماعية. والتغيير في هذه الحدود والأنظمة يصنع "هزة" للروتين اليومي وهو أمر له تأثير عميق ويتطلب إعادة "تنظيم" للحياة من جديد. هذا ما حدث لي مع الخميس الجديد "نسبياً" والسبت الجديد كلياً. أجد صعوبة إلى حد ما في التوائم مع يوم الخميس في شهر رمضان، والحقيقة أنني أصحى يوم الخميس من أجل القيام بعدد من المهام التي تعودت أن أقوم بها آخر عقدين من حياتي وهي مهام "روتينية" يصعب تغييرها والتعود من جديد على روتين آخر. أول تلك المهام هي كتابة هذه المقال فقد مر الآن أكثر من 12 عاماً تقريباً وأنا أكتب مقال الرياض صباح الخميس ومازلت وربما يصعب علي تغيير هذه العادة التي "تبرمجت" عليها ومن الضروري أن أبحث عن حلول أعيد فيها "برمجة" نفسي كي تتلاءم مع النظام الأسبوعي الجديد. في رمضان يبدو أن الإحساس بغربة الخميس يستفحل فهذا أول خميس "دوام" في رمضان وهو خميس يصطدم بقوة مع كل ما تعودت عليه وما يفترض أن أقوم به. بالطبع أنا لست ضد التغيير فكل جديد يأتي بأنماطه وبتقاليده وبروتينه، والانسان جبل على التكيف وعلى تطوير عاداته وهذه الميزة الكبيرة التي تميز الإنسان، فكل دعوة للتغيير تحمل في عمقها تفكيكاً للحالة الراهنة وإعادة بنائها من جديد في المستقبل وفق المتغيرات الجديدة. ولعل قياس التغيير على المستوى الشخصي هو الذي يجعلنا نشعر بتأثير أي تحول في الحياة الاجتماعية أو السياسية وحتى العمرانية والاقتصادية على الحياة العامة والخاصة للناس، فقرار تغيير وقت الإجازة الأسبوعية وهو قرار في نظر البعض "عادي" لكنه في حقيقته يضرب بتأثيره في "نمط الحياة" الخاص لكثير من الناس الأمر الذي يتطلب إعادة برمجة لهذه الحياة وإعادة تنظيمها وفقاً للقرار الجديد. إنني أسأل نفسي كم هي المرات التي احتجب فيها أن أغير من نمط حياتي نتيجة لقرارات أو تغيرات حدثت؟ دعوني أقول إنني من الناس الذين عاشوا فترة دوام الخميس عندما كانت الاجازة فقط يوم الجمعة وأذكر إنني كنت في المراحل الابتدائية المبكرة جداً عندما أضيف الخميس للإجازة الأسبوعية وكان لذلك القرار تأثير اجتماعي كبير على المدى الطويل. ربما كان ذلك عام 1973 أو 74، لا أذكر على وجه الدقة ولكني مازلت أتذكر بعض التعليقات لأخوتي الكبار الذين استقبلوا هذا القرار بفرح واحتفلوا به. اليوم نعود للخميس مرة أخرى ولكن أسبوعنا صار يبدأ يوم الأحد، وهو تغير دون شك سيعيد تشكيل الثقافة الاجتماعية من جديد فأربعين سنة من إجازة الخميس صنعت فرقاً ثقافياً عميقاً وشكلت أنماطاً حياتية مرتبطة بأيام الاسبوع ومن المتوقع أن تستمر هذه الثقافة في التغير والتحول وبناء نمط جديد للمجتمع السعودي. دعوني أقل إنني على المستوى الشخصي أشعر أن رمضان على وجه الخصوص يحدث تغييراً مؤقتاً على الحياة، يحولها بشكل لافت للنظر من شكل إلى آخر ويهذب روح الناس وأخلاقهم، يجعلهم أكثر هدوءاً ولطفاً، لكنه تحول مؤقت. هذا الشهر يعمل على "التذكير" وبناء ذاكرة "تكرارية" تستعيد أنماطاً اجتماعية وعادات وتقاليد لكن تأثيرها متباعد من السنة إلى السنة التي تليها وفي الغالب تتشكل هذه الذاكرة "الشعائرية" من الخبرات السابقة فرمضان يستعيد حضوره بشكل كامل من أول يوم لكنه كذلك ينتهي مع يوم العيد. ومع ذلك فإن رمضان يتأثر بالمتغيرات المناخية وأذكر أنه خلال الربع قرن الأخير مر علينا رمضان في الشتاء لسنوات طويلة فتحول "ليل رمضان" الصاخب إلى ليل قصير بارد وهادئ. الانسان بطبيعته يتعامل مع التحولات التي تحيط به ويصنع منها أنماطاً حياتية جديدة قابلة للتكيف باستمرار. علاقة الخميس "الجديد" برمضان المتحول، ليست واضحة بالنسبة لي بما يكفي، لكنه تغيير يجعل من رمضان مختلف إلى حد ما وهو اختلاف ستتضح معالمه مع الوقت، وأنا مؤمن أن التغير الاجتماعي يبدأ من إلقاء حجرة صغيرة في المياه الراكدة، والموجة التي تصنعها هذه الحجرة الصغيرة تغير من طبيعة تركيب السطح وربما لا تنفذ إلى العمق لكنها طبيعة الأشياء التي تتحول ببطء وتحتاج إلى وقت طويل حتى يتضح تأثيرها. والحقيقة إنني لاحظت أن مبدأ التحول هو الأصل في الحياة، وهو مبدأ قرآني عميق فالأرض الميتة تحيا بالماء وخلق الإنسان يمر بمراحل تشكل حتى ينشئه الله خلقاً آخر، الأمر المثير هو أن القرآن الكريم يربط مبدأ التحول بالابداع، وبالخلق "الجديد" وهو تحول ذهني وفكري عميق يخاطب "قوى الانسان" العقلية والجسدية ويستحثها على صنع الجديد. في حقيقة الأمر أن كل تغيير، مهما كان صغيرا، يصنع إبداعاً جديداً، أو هو يستحث الإنسان لصنع الجديد ويحدث داخله مجموعة من التغييرات التي تختلف من فرد لآخر، فالبعض يلامسه التغيير ملامسة ويحك جسده دون عقله، والبعض يتغلغل فيه التغيير ويعيد تكوينه وخلقه من جديد وكأنه تعاد ولادته رغم أن الحدث واحد. الاستجابة هنا يحددها المتلقي الذي يوظفها، فإما أن يمر التغيير مروراً عابراً وإما أن يمثل هذا الغير علامة من علامات الحياة المهمة.