فارق كبير جداً بين استشراف المستقبل السياسي لأي أمة، وبين الرجم بالغيب.. في الأولى أنت تراهن على ما تعرف، وفي الثانية أنت تقامر بما لا تعرف، في الأولى أنت تنتظر ما عملت من أجله، أو ما تقودك الحسابات الى انتظاره، وفي الثانية أنت تنتظر أن يبيض الديك او أن تطير العنزة. عملية استشراف المستقبل، لا تقدر عليها سوى نخبة "حقيقية" قادرة، تمتلك المعلومة الصحيحة، أو تسعى على الأقل الى امتلاكها، ثم تقدر بعد ذلك على التحليل، والتمحيص، والدرس، واستخلاص النتائج، ثم إعادة بناء رؤية وفق معطيات حقيقية.. هل لدينا مثل تلك النخبة "الحقيقية"؟! هل لدينا من يملك الإجابة عن السؤال : لماذا ؟! .. مصيبة النخبة العربية التي قادت في السابق، ما أطلقنا عليه- بالوهم أو بالحلم- مرحلة إعادة البناء، أنها في أحسن حالاتها كانت تمتلك الاجابة عن السؤال:"كيف"؟!.. لكنها لم تكن تمتلك لا الشجاعة ولا القدرة على طرح السؤال : لماذا؟! من يعرفون إجابة السؤال كيف، هم الأسطوات، الذين يمكنهم إدارة أو تشغيل ماكينة أبدعها من يملكون الإجابة عن السؤال لماذا؟!.. هؤلاء الأسطوات يمكنهم إصلاح سيارة تعطلت، لكنهم لا يملكون القدرة على ابتكار سيارة جديدة، فيما تحتاج الأوطان المعتلة، عند محطات التحولات الكبرى، الى نخبة مبدعة تمتلك الإجابة عن السؤال: لماذا؟ أو على الأقل تمتلك القدرة او المنهج الذي يمكنها من بلوغ الإجابة عنه، فهل لدينا في سنوات الربيع العربي، ما يمكن شعوب هذا الربيع الكاذب، من بلوغ الإجابة عن أسئلة تتعلق بصميم وجود دولهم ؟!. النتائج صادمة.. فغياب النخبة "الحقيقية" التي تمتلك الاجابة عن السؤال لماذا، او اعتلال تلك النخبة بفعل قرون طويلة من حمل متكرر كاذب، قاد أغلب سكان إقليم الشرق الأوسط،الى زمان ومكان ما زالوا ينتظرون فيه أن يبيض الديك أو أن تطير العنزة. راقبوا المشهد فوق خارطة ما يسمى بـ الربيع العربي، كانت لدينا في دول الربيع "الكاذب" حكومات "اسطوات" تظن أنها تحسن قيادة سيارة الأوطان العتيقة، لكنها سقطت بها الى هاوية تلقفتها فيها نخبة "ثورية" ظنت أنها تستطيع اصلاح السيارة المعطوبة وقيادتها الى غايات يتطلع اليها الركاب، لكن النخبة "الثورية" سرعان ما فقدت السيطرة على عجلة القيادة، التي انتزعتها جماعات يظن بعضها أن المشكلة في الطريق وليست في الماكينة المعطوبة. جماعة الطريق، أرادت اختطاف العربة باتجاه العودة الى "السلف"، وجماعة الماكينة ظنت أن المشكلة في السائق، فالعربة تعمل والطريق لا بأس به، غير أن الحقيقة هى أنه لا العربة عربتنا، ولا الطريق طريقنا، فالعربة مستعارة من مستعمر غادرنا وتركها، والطريق موروثة من سلف تجاوزه الزمان، وتجاوز أدواته، لكن تغيير السائق مع استمرار اعتلال الفكر لا يصحح مساراً ولا يصلح معطوباً .. لا بديل عملياً أمامنا إن أردنا اجتياز محنتنا سوى بامتلاك نخبة مبدعة ،تعرف كيف تبدع حلولاً تحملنا الى المستقبل ، وهى لن تستطيع ذلك ما لم نمتلك نحن القدرة والرغبة على تجاوز قيود حملناها قسراً على عاتقنا، وخلعنا عليها من الألقاب ما يزيدها جمودا على جمود، فصارت تارةً" هويتنا" و أخرى "ثقافتنا" و ثالثة "إطارنا المعرفي، ورابعة" خصوصيتنا" وخامسة "ثوابتنا"،وأتحدى أن نمتلك جميعنا القدرة على صياغة تعريف واحد جامع مانع لكل ما تقدم من خصوصية، وهوية، وثقافة وثوابت، وإطار معرفي..... في أحسن الأحوال فإن أفضلنا ما زال يملك القدرة على المراوحة في المحل، أي أنه "صامد" لا يتأخر... ولا يتقدم أيضاً، وفي أحسن الأحوال أيضاً، فإن من لا يتقدمون مع المتقدمين، يصبحون مع الوقت متخلفين عن الركب الحضاري للإنسانية، ويتحولون مع الوقت الى أمم بائدة، وهكذا فلا خيار أمام أوطاننا سوى بالتقدم، ولا تقدم بغير ابداع ، ولا إبداع بغير معرفة، ولا معرفة بغير حرية. الأمم التي نهضت وتقدمت، امتلكت بـ" النقل" الاجابة عن السؤال:"كيف؟".. والأمم التي قفزت طويلاً الى الأمام، امتلكت بـ "العقل" الإجابة عن السؤال:" لماذا؟" .. ففي المسافة بين الـ" know how" وبين الـ "know why" يكمن التحدي الحقيقي لأمم تتطلع بحق الى مكان في المقدمة بين الأقوياء. أمام شعوب الربيع العربي، تحدٍّ أهم في اللحظة الراهنة، يتعلق بصميم الوجود، لكن التأثير وليس مجرد الحضور، هو مناط وجود الأمم، والمعرفة هى أهم أدوات التأثير، والحرية هى الباب الرئيس للمعرفة. اشرعوا أبوابكم للمعرفة وافتحوا عقولكم لحرية الفكر ، فلا سيادة لأمة أوصدت خلفها أبواب الاجتهاد، وأحكمت قيود البحث، ولا مكان في المستقبل لشعوب ما زالت تنتظر أن يبيض الديك أو ان تطير العنزة. moneammostafa@gmail.com