في مدرجات الدرجة الثالثة بملاعب كرة القدم تكمن نماذج واضحة للمذاق «الشعبوي»؛ هتافات نابية وجارحة في حالة عدم الرضا، وآهات وصيحات الرضا في حالة الإعجاب بالأداء. وقد يحدث التفاعل المفعم بالعاطفة الجياشة لاهتمام هؤلاء المتفرجين بأداء أحد اللاعبين الاستعراضي وهو «يرقص» ويناور المدافعين فينتزع التصفيق والتهليل حتى إذا لم يسجل هدفا، أي قمة الاهتمام بالرد الجماهيري فقط دون الاعتبار لتحقيق الهدف المرجو. هذا هو الحاصل اليوم في عوالم الإعلام الجديد؛ هو قمة التركيز على عدد المتابعين وعدد الزوار وعدد المسجلين للإعجاب، وغير ذلك من أدوات وعلامات القياس الجماهيري، والتي باتت المعيار «الأهم» لقياس التأثير والنجاح والفعالية. هذا النوع من سياسة «القطيع الجماهيري» انتقل، كما هو واضح، إلى صناع القرارات السياسية، فدخل في مجال التواصل الاجتماعي عدد غير قليل من الساسة والوزراء في العالم العربي، وتحولت هذه الحالة مع مرور الوقت إلى عامل «مؤثر» على القرار السياسي نفسه، فأصبح الهدف هو نيل الإعجاب والاستحسان والهتافات والآهات لكل قرار أو تصريح أو حراك بدلا من أن تكون عناصر التواصل الاجتماعي مجرد أداة للتواصل فقط واستشعار ردود الفعل وقياس الرأي العام. خطورة هذا الأمر أن القرارات المهمة والمطلوبة والمؤلمة في الكثير من الأحيان تتأجل إذا لم تُلغَ لأجل قرارات آنية تجلب صيحات الإعجاب السريعة والتصفيق الفوري، ولكن الصورة الكبيرة والأهم تبقى دون تأثير وتغيير حقيقي. القرارات الاقتصادية لا يمكن أن تبنى فقط على عنصر العقاب لطرف واحد فقط، فهذه مسألة غير قابلة للاستمرار. والمعنى المقصود هناك هو أهمية أن يكون الانفتاح على منظومة اقتصادات العرض أهم من التضييق المستمر على العاملين فيه. كل القوانين والأنظمة والتشريعات التي تحث على تيسير بيئة الأعمال وتحويلها إلى بيئة حاضنة وجاذبة للاستثمار هي المعيار الوحيد والحقيقي لنجاح الهيئات والجهات المشرعة للاقتصاد والأعمال، ولكن نسمع عن فرحة البعض وتهليلهم بالتشهير ببقالة وجدت فيها 50 علبة تونة منتهية الصلاحية، أو التشهير بوكيل سيارات لأنه لم يوضح علاقته مع مصدر قطع الغيار، أو التشهير بشركة تمثل مصنعا للأجهزة الإلكترونية دون أن يكون ذلك مسجلا فعلا، بينما يتم التغاضي عن أرقام المؤسسات والشركات المعطلة عن «إشهار» سجلاتها والتصريح بنشاطاتها وتسجيلها وغير ذلك من المعوقات، ولا يتم الإعلان عن رؤوس الأموال والشركات التي أغلقت وخرجت من السوق لصالح دول أخرى وأسواق أخرى حارمة السوق المحلي من رؤوس أموال أتت للاستثمار فيها وتوظيف أعداد مهمة من الشباب فيها. سياسة الجماهير الغفيرة هي التي فرضت الاهتمام بالتصريحات وكبسولات الأقوال فيحصل التفاعل «الفوري» بحسب نوع التصريح، ولقد عرفت السوق السعودية ذلك مؤخرا من خلال تصريحي وزيري البترول والمالية، فكان التفاعل الفوري في سوق الأسهم، وهذا النوع من الدراما تكون السوق في غنى عنه تماما إذا تم تعيين متحدث رسمي لكل وزارة يفيد الناس بما يحصل ولا يبقى الغموض ومحاولات التفسير العشوائية التي تضر ولا تفيد. لقد عرف الناس فوائد هذه الشفافية منذ سنوات عندما أقدمت وزارة الداخلية السعودية بتعيين متحدث رسمي برتبة لواء للتحدث مع القطاع الإعلامي والتواصل المستمر لشرح كل صغيرة وكبيرة تحدث في القطاع والصعيد الأمني، وبذلك تم وضع حد كبير جدا للإشاعات والأقاويل والتخمينات، وهذا بحد ذاته عاد بفائدة عظيمة للغاية. مدرجات الدرجة الثالثة يجب ألا تتحكم في القرار السياسي أبدا لأننا حتما سنفرح باللعبة الحلوة وننسى أهمية النتيجة النهائية ونكون أشبه بمن فرح بنجاح العملية الجراحية على الرغم من أن المريض نفسه قد مات!