تحدثت في المقالة السابقة عن ثلاثة مستويات للتربية يفترض أن تهيئ الطفل في نهاية المطاف ليكون عضوا فاعلا في مجتمع محكوم بنظرية العدالة. أعني بالعضو الفاعل هنا الفرد الذي يمتلك الاستعداد الذهني والمعرفة الكافية للتعاون مع الآخرين للعيش في مجتمع يحترم حق الجميع في الحرية والمساواة. المستويات الثلاثة "أخلاق السلطة، أخلاق التجمع، أخلاق المبدأ" متبناة من أطروحات جان بياجيه عن النمو النفسي للأطفال وتطبيقات جون رولز لتلك الأطروحة في المجال السياسي. مهمتنا هنا هو فحص وتصور كل ذلك في سياق التربية وحقوق الأطفال. موضوعنا هنا هو المستوى الأول الذي يتحصل خلاله الطفل على التكوين الأخلاقي الأولي وهو ما يسميه رولز بأخلاق السلطة. السلطة هنا مفهومة بمعنى وجود نظام تجب طاعته في الأحوال الطبيعية. بهذا المعنى، فإن السلطة تشمل كل أشكال التجمع البشري التي تحتاج بطبيعتها إلى تنظيمات معينة تجعل من هذا التجمع ممكنا وقابلا للاستمرار. بمعنى أن يكون هناك نظام متفق عليه يخرج به الناس من علاقات القوة وشريعة الغاب. بهذا المعنى فإن حديثنا هنا عن السلطة يشمل حتى التصورات الأناركية التي تسعى إلى تفتيت السلطات المركزية إلى سلطات محلية في أصغر حدودها. في كل الحالات، لدينا تجمع إنساني وهذا التجمع يحتاج إلى تنظيم بشكل أو بآخر. الأخلاق هي أساس تلك التنظيمات، وبالتالي فإنه من الجوهري الحديث عن أخلاق السلطة. أخلاق السلطة هنا تعني القيم التي يجب أن تحيط بالسلطة لتكون عادلة وبالتالي مقبولة وتستحق الدعم والرعاية. أولى مراحل تكوين إمكان مثل هذه السلطة تتشكل حسب بياجيه ورولز في الأسرة. هذا معقول جدا لأن الطفل في مراحله الأولى خاضع وبشكل شبه كامل لسلطة من حوله: والديه في الظروف الطبيعية. الحالة كالتالي: الطفل عاجز عن القيام بشؤون حياته الأساسية وبالتالي فهو في حاجة ماسة للرعاية والعناية وهذا يترتب عليه الخضوع لسلطة الوالدين والاستجابه لها. هنا نحن أمام خيارات متعددة فإما أن تؤسس تلك العلاقة الأولى للطفل مع والديه تشكيلا ذهنيا ونفسيا يساعده على تقبل وفهم وجود سلطة عادلة تستحق الرعاية أو أن تؤسس حالة ذهنية ونفسية عاجزة عن تصور وجود سلطة عادلة وفاقدة للثقة في وجود مثل هذا الشيء. الحالة الثانية يمكن أن تنشأ من تصورين: الأول أن السلطة بطبيعتها قهر لا يتأسس على منطق، وبالتالي فالقضية هي قضية غلبة وقوة لا قضية عدالة. الثاني: أن الموقف من السلطة هو الطاعة العمياء دون حاجة إلى الثقة والقناعة. في المقابل ما نحتاجه في مجتمع العدالة هو تصور للسلطة يجعلها معقولة وتستحق الثقة ما دامت ملتزمة بمعايير العدالة. الطفل هنا أمام أولى السلطات في حياته، سلطة والديه. تجربته مع هذه السلطة جوهرية لتشكيل علاقته بالسلطة بشكل عام. لنطرح هنا الشروط الأخلاقية التي يمكن أن تجعل هذه السلطة الأولى عادلة. أولا من أهم شروط علاقة الطفل مع والديه أن تتأسس على الحب. الحب هنا يعني أن سلطة الوالدين مدفوعة بمشاعر خيّرة تجاه الطفل. أي أن سلطة الوالدين حقيقة متأسس على حق الطفل ومنفعته. هذا يتحقق ويتضح خلال العلاقة التي تتشكل مع الوقت بين الطفل ووالديه. علاقة الحب تتميز باستقرار وانتظام. في المقابل فإن العلاقة غير المحكومة بالحب تتميز بالتقلب والمزاجية. المزاجية والفوضوية تعني أن الوالدين خاضعين لحساباتهما الشخصية وتقلب حالاتهما النفسية، وأن الطفل هو موضوع هذه التقلبات. الطفل هنا مجرد وسيلة أو أداة يعبّر خلالها الأهل عن انفعالاتهم. في المقابل الحب يحمي الطفل من عشوائية والديه. الحب هنا طاقة هائلة في داخل الوالدين تفرض عليهما منطقا محددا في التعامل مع أطفالهما. الحب هنا يتحقق نظريا وعمليا. الحب الذي لا يظهر في السلوك لا يظهر للطفل وبالتالي لا يعرفه. الشرط الثاني لأخلاقية سلطة الوالدين هو أن تكون سلطة مدعومة بتبرير وبرهنة مستمرة. بمعنى أن يلتزم الأهل بشرح وتفسير سلطتهم لطفلهم. هذا يعني احتراما لذات هذا الطفل وشعور بقيمته. هذا يعني أيضا أن رأي الطفل وفهمه لقواعد التربية أساس لجعلها قواعد عادلة. في المستقبل هذا سيجعل الطفل حين يكبر يطلب تبريرا وبرهنة على سلوك السلطة كما سيجعله ملتزما بتقديم مشروعيتة لسلطته في حال تولى سلطة ما. الحب يؤسس أن السلطة ولو من ناحية المبدأ يمكن أن تكون محبة وبالتالي طيبة النوايا. التشريع يجعل من السلطة مفهومة وهذا يخرجها من دائرة العبث أو مجرد التسلّط وممارسة القوّة. المشهد السابق كان يمثل الحالة المثالية لأخلاق السلطة وبإمكاننا أن تصور العكس. بمعنى أن نتصور علاقة أسرية تفسد إمكان تربية الأطفال على العيش في مجتمع محكوم بتصورات للعدالة تحترم حريات وكرامة الناس. الأب أو الأم اللذان لا يحبان طفلهما أو لا يظهران هذا الحب في سلوكهما يقومان بتربية طفل تصعب عليه الثقة. الثقة هنا هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية والتعاون بين الناس. الإنسان الذي لا يثق في أحد سيجد صعوبة كبيرة في التعاون والعمل المشترك. كذلك الأسرة التي تفشل في تشريع سلوكها وتقديم تفسيراته للطفل تقدم نموذج السلطة غير المفهومة، السلطة العبثية المزاجية المتقلبة. هذه السلطة لا يمكن أن تكون عادلة لأنها غير منتظمة ولا مستقرة وهذا ما يجعل تعاون الناس معها والدخول فيها متعذرا. التركيز على الأسرة هنا ليس تجاهلا للعلاقة الجدلية بين الأسرة والمجتمع التي تجعل الأسرة في النهاية انعكاسا للعلاقات المجتمعية الأكبر. المقصود هو التركيز على الدور الجوهري الذي تقوم به الأسرة في تشكيل التركيبة النفسية الأولى للإنسان وتصوراته المبكرة عن الحياة والعالم، إذ يبدو أنه لا يوازيه أي دور آخر.