لم يكن أحد يتصور أن تنتهي الخلافات المصرية القطرية بهذه السرعة، وبهذه الصورة التي جعلت ملف الخلاف بين الدولتين إلى هذه النهاية التي أحالتها من الحاضر إلى الماضي، ومن الجغرافيا إلى التاريخ . فالقضية كانت شائكة ومعقدة ومتداخلة؛ وكثيرون كانوا مستفيدين منها، ويسعون بكل قواهم إلى تعقيدها أكثر، فبقاؤهم من بقائها، وحلها يعني أنهم فعلا ينتقلون من مقدمة الصفوف إلى مؤخراتها. ويبدو أن الملك عبدالله عندما تصدى لهذه المشكلة، وندب لحلها رئيس الديوان الملكي وسكرتيره الخاص إلى القاهرة، كان يدرك منذ البداية أن وجوده عن كثب، وقربه بشخصيته المؤثرة من تعقيداتها وتشابكاتها ضرورة وعامل من عوامل حلها. فقد كانت شخصية الملك عبدالله حاضرة وبقوة في كل شاردة وواردة، ومكانة المملكة وثقلها الاقتصادي والسياسي يدفع بهذه القضية نحو الحل الذي انتهى هذه النهاية السعيدة كما أعلن يوم السبت الماضي. فقد كان - حفظه الله - يعلم أن ملف قضية الخلاف المصري القطري ليس قضية تتوقف عند علاقات ثنائية دبلوماسية بين دولتين فحسب، وإنما تمتد إلى العلاقات الخليجية المصرية، كما أنها قد تكون بمثابة الثقب الذي منه ينفذ كثير من الطامحين للسيطرة على المنطقة والتحكم في توجيهها واستغلال أزماتها وشعوبها وثرواتها إلى ما يصب في النهاية في مصالحهم . لذلك جاءت أهمية هذا الملف، وتصدي الملك عبدالله بنفسه، وبثقله، ومن خلال مبعوثه، لإغلاق هذه القضية وإنهائها. ومن يرصد مسار التوجهات القطرية مؤخرا يلمس فعلا أنها تغيرت كثيرا، فكان لا بد أن تقابل مصر هذا التغير الواضح والجلي بمواقف إيجابية واضحة وجلية أيضا، من شأنها أن تسعى بالعلاقات القطرية المصرية إلى التقارب والنأي عن خلافات الماضي والتطلع إلى المستقبل وتوظيفه في مصلحة الطرفين ومحاصرة المستفيدين، وفي مقدمتهم أساطين المتأسلمين السياسيين، الذين عانت منهم مصر، وعانى منهم أمنها واستقرارها الأمرين، كما تشهد الأحداث الماضية والحاضرة. ولست في حاجة إلى إثبات أن أول الخاسرين من التقارب المصري القطري هم هؤلاء المتأسلمين الانتهازيين؛ وغني عن القول إن محاصرتهم، بهدف اجتثاث قوتهم وتفوذهم، يبدأ من حل هذه الخلافات التي يعيشون، ويستمدون منها أسباب قوتهم وتأثيرهم . هذا هو المنطق الذي ارتكزت عليه مبارة الملك عبدالله لإصلاح ذات البين بين قطر ومصر، وهو ذاته السبب الذي جعل عقلاء المصريين، وعلى رأسهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يتجهون إلى إنهاء الخلاف مع قطر وحل جميع القضايا المعلقة بهذا الملف. أعرف أن كثيرين مازالوا يراهنون على بقاء المشاكل والتباينات السياسية في المواقف بين مصر وقطر، وأن ما انتهت إليه المبادرة السعودية، ليست سوى مسكن للآلام، لن تلبث إلا وأن تعود بانتهاء فترة تأثير (المسكن). وفي تقديري أن احتمالات انتهاء الخلافات أكثر من احتمالات عودتها وتفاقمها من جديد؛ فالضامن لهذه الاتفاقية وبقائها فاعلة على أرض الواقع هو الملك عبدالله وثقل المملكة السياسي والاستراتيجي في المنطقة، والأمر الآخر لم بعد ثمة سبب سياسي يُبرر دعم قطر لجماعة الإخوان وبقية جماعات الإسلام السياسي والتحالف معهم بعد فشلهم الذريع في مصر، ناهيك عن فشلهم في تونس وفي ليبيا أيضا، والأمر الثالث أن الرئيس السيسي يدرك بوضوح أن العلاقات الإستراتيجية مع الصف الخليجي لا يمكن أن تستثني قطر؛ هذه العوامل الثلاثة يجعل احتمالات العودة من جديد ضعيفة. بقي أن أقول : إن نجاح مبادرة الملك عبدالله لإصلاح العلاقات القطرية المصرية، وهي أكثر القضايا تعقيدا وتشابكا، يعني عمليا أننا وارينا التراب حقبة ما كان يسمى الربيع العربي الذي ذاقت منه المنطقة العربية كل هذه الحرائق التي مازال بعضها مشتعلة حتى الآن. إلى اللقاء