×
محافظة مكة المكرمة

«هيئة الأمر بالمعروف» تقرُّ بتورط أعضائها في حادثة «طالبات الطائف»

صورة الخبر

نشرت دار المفردات السعودية رواية عنوانها: «أول الغيث» لصالحة عمر بلغيث، ويبدو هذا العمل باكورة نتاج الكاتبة، التي كان بود القارئ أن تسعفه دار المفردات بنبذة تعريفية عنها، لكن الدار أعفت نفسها من التعريف وضيعت على القارئ فرصة التعرف على شخصية هذه المؤلفة. إن هذا العمل السردي يحسب له مبادرته بإدخال حرب «المدحر» بوصفها قضية محورية ارتكز عليها وانبثقت أحداثه وشخوصه منها، على هذه المبادرة من الكاتبة، إلا أن هذا الحدث لم يغط سردياً بما يليق بحجمه وتداعياته، ليس هذا الحدث فحسب، بل هناك أحداث هزت حضرموت وغيرت مصائرها ولم تلقَ من السارد عناية، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال صراع الدويلات الصغيرة في حضرموت، وآخرها الصراع القعيطي الكسادي وما تلاها من أحداث تمت بعنوان: «الثورة والاستقلال عصفت بالبلاد». كل هذه الأحداث لم تنل حقها من السارد، ليس في حضرموت، بل في الجنوب عموماً، ويمكن أن ينطبق ذلك على استدعاء الشخصيات من التاريخ، فهذا الفعل السردي غائب أيضاً. إن المسافة بين السارد والتاريخ بالمعنى العميق مازالت نائية في حضرموت، ولم يحظ هذا التاريخ بأحداثه وشخوصه بالحضور السردي، ولا يخفى على القارئ اللبيب أن مستويات التفاعل مع هذا التاريخ ليست سواء، فقد يحضر التاريخ بقوه وقد يتراجع إلى درجة يختلط فيها التاريخ مع الشخوص، ويتحول التاريخ إلى تاريخ ينتمي إلى العمل السردي نفسه، وليس بوصفه تاريخاً كما حدث في زمنه الحاضن له، وبلغة مكثفة إن السارد الجيد هو الذي يمتطي التاريخ ولا يجعل التاريخ يمتطيه، ولا يماري المرء في أن ثقافة السارد وطول باعه في قراءة التاريخ وتعمقه فيه، فضلاً على ثقافته السردية وتطلعاته الوجودية ورؤيته الكونية، تسهم في رفع درجة العمل السردي درجات عليا وتشعله ألقاً يبهج القارئ ويكسبه حدة في الوعي بالتاريخ ونقده. وبعد هذه المقدمة التي انصبت على العلاقة بين السارد والتاريخ، ليس لنا بدّ من الدخول في الموضوع الذي ارتضينا له عنواناً: «المفارقة في أول الغيث». والمفارقة تأتى على مستويات وليس على صورة ثابتة، فقد تكون جزئية وقد تخترق العمل برمته في العمق والسطح! والمفارقة المعنية بالتناول هي مفارقة تفرقت في ثنايا الصفحات، وهي جزئية وولدت هذه المفارقة من تغير الأحداث والمواقف، فما كان مرفوضاً أصبح مقبولاً، ومن كان عدواً وخصماً لدوداً أصبح صديقاً، بل تغير مفهوم الوطن في الرواية، إذ أصبح الوطن ليس الذي ينتمي إليه المرء بالانتماء الجغرافي والأنثربولوجي والميلاد، بل أصبح الوطن المكان الذي يُرزق فيه المرء، وتجسدت المفارقة في العلاقة بين شخصية محمد وابنه عمر، فالأب محمد تبدلت مواقفه وتوجهاته في الحياة، والابن أصبح يعمل بمهنة بيع قطع السيارات، والرواية سردت لنا أن السيارات نفسها كانت سبباً في شقاء والده محمد وسبباً من أسباب اشتعال حرب «المدحر» التي كان فيها محمد ليثاً من ليوث أهل الحصين تخافه الليوث وفق تعبير الرواية نفسها، وهي التي أشارت إلى هذه الحرب وأسبابها على لسان الراوي الذي بين حجم الأذى والمعاناة التي وقعت على البدو، إذ يقول «تغيرت الحياة وفرض الإنكليز على البدو أنظمة وقوانين لا يعرفونها. وسحبوا منهم كل شيء. ومنعتهم الحكومة الجديدة حتى من التنقل بجمالهم ودوابهم، إذ أدخلت السيارة إلى البلاد.. وأصبحت حديث أهل القرى والوديان.. السيارة. أو العنقاء أو هي مخلوق غريب. وأصبحت الدواب والجمال والحمير - رأس مال البدو - بمكانة حجر عثرة لسيارات الحكومة.. ونشبت حرب بينهم وبين الحكومة وبعض البدو المرتزقة الجهلة، أغرتهم الحكومة بالمال فقاموا بأعمال تخريبية وعاثوا فساداً في الأرض، وسرقوا ونهبوا تحت مظلة شرعية إنجلو سلاطينية...». إذن من الأسباب التي أدت إلى نشوب حرب المدحر دخول السيارات وسيلة نقل حديثة بدلاً من الوسيلة القديمة، إنه منطق التطور والتغيير فما كان صالحا ومناسباً في مرحلة معينة لم يعّدُ صالحاً في مرحلة لاحقة، ولا يعني ذلك إهمال العامل الاستعماري وإلحاقه بالأسباب التي أفضت إلى حرب المدحر. وكتب المستشرق الفرنسي غوبينو تعليلاً لافتاً عن مدى كراهية السكان المحليين للأوربيين، وهذا ينطبق على بدو حضرموت، إذ سبب دخول الإنكليز تهديداً لحياتهم الاقتصادية وبمنطوق غوبينو نفسه: «ينظر سكان الجزيرة العربية بذعر كبير إلى السفن التجارية الأوربية الضخمة السريعة وغير الخاضعة لمواسم الرياح، التي ستتركهم من دون عمل وضحايا للجوع». واسترسل غوبينو في فكرة تهديد معاش السكان المحليين الذين احتلت أوروبا أوطانهم، فقال: «إن تهديد المصالح الاقتصادية والخوف من البطالة والجوع هما سبب كراهية السكان المحليين للأوربيين وليس التعصب الديني». والمفارقة أن التطور الصناعي والثقافة الميكانيكية التي كان من ثمراتها إنتاج السيارات أضرت بطبقات العمال في البلدان الأوربية نفسها المنتجة لهذه الثقافة. ويمكن للقارئ أن يلتمس المفارقة في الرواية المعنية بالدرس في شخصية عمر الذي عشق العمل في قطع غيار السيارات على رغم أن السيارات هي نفسها كانت السبب المباشر في رحيل والده من الحصن بعد نشوب الحرب بين أهل الحصن والحكومة القعيطية في حضرموت، التي كانت محمية بريطانية، إذ هُددت حياة البدو حينئذ وتضررت مصالحهم وآل مصيرهم إلى الجوع والبطالة، والمفارقة أن ما كان نقمة على والد عمر أصبح نعمة بالنسبة إلى عمر، ولم تعد السيارة ذلك الكائن الأسطوري الذي شبهه الراوي بالعنقاء، بل كائن محبب شغف به عمر، وبمنطوق الراوي «شغف بالسيارات الحديدية الثقيلة، وأصبح يذهب إلى مواقفها ويلمسها بيديه ويتسلقها ويسأل عن صناعتها ومن أي بلد هي». أما الموضع الثاني من المفارقة داخل المتن، والذي يمكن أن يضع القارئ اليد عليه، فهو أن بريطانيا التي وصفها الراوي بأنها حين دخلت كانت «طامعة في خيرات تلك البلد باسم الاستعمار... فتحالف السلاطين مع الإنكليز ونشأ اتحاد أقامته بريطانيا.. كما أن السلاطين كانوا يكنون الولاء للبريطانيين خوفاً منهم على فقدان الحكم». والمفارقة أن شخصية عمر ابن البطل محمد الذي حارب ضد السلاطين والإنكليز حين قرر والده أن يهاجر إلى خارج الوطن، لم يجد حرجاً في أن يركب ابنه في سيارة السلطان الموالي للإنكليز، ليس هذا فحسب، بل حظي بالجلوس إلى جانب السلطان نفسه، وحين تقع الحادثة للسيارة نفسها الراكب فيها عمر لم يسعفه سوى فريق الإسعاف الإنكليزي. إنها المفارقة التي تجمع في لحظة من الزمن بين المتناقضات. أما المفارقة الثالثة فتتجلى في هذا الحب للوطن، فبعد أن كان محمد لا يرضى به بديلاً، نرى مفهوم الوطن يتبدل مع حركة الأحداث والزمن، ويصبح مفهوم الوطن مفهوماً آخر لا علاقة له بما سرده لنا الراوي، حين استعار بيت شوقي وساوى بينه وبين حب محمد للوطن، فمحمد يتلقف من والده حكمة تقول: «إن بلادك حيث تُرزق لا حيث تُخلق». وورد في المأثور عن الإمام علي بن أبي طالب «المال في الغربة وطن».