كان السياب محزنا يوم كان حزن العراق قليلا. فقر في الأرياف يولّد الشعراء والحدائين، وظلامة في المدن تولّد محمد مهدي الجواهري. وبدر شاكر السياب، الذي من جيكور، كان محزنا مثل موال عراقي على حافة الفرات. قامة قليلة ناحلة مثل القصب في الأنبار، وملامح باكية من كثرة ما في أعماقها من خيبة وشكوى ولا أمل. وبدل أن يُحوّل السياب فرات البؤس فيه إلى هجاء وتمرد وبيانات ثورية، كما فعل الجواهري والبياتي على حساب الروعة الشعرية، حوّل كل أنّة إلى قصيد وقافية ورحلة منفردة في حدائق الشعر وعلى ضفاف الحياة. 50 عاما على غياب بدر جيكور، قرية الرمل والمياه التي وضعها على خريطة الرافدين مفترقا جماليا للشعر العراقي منذ زمن الشعر العباسي وقريضه الذهبي. وكلما مر عام وسع بدر ضريحه على قمم الشعر. أغنى الأدب العربي المعاصر، ومات فقيرا تمزقه العلتان: المرض والإهمال. وكنت أزوره في مستشفى الصبّاح في الكويت وهو على سرير حديدي صغير مثل أسرة الثكنات. وكان دائما مبتسما راضيا غير متأفف كأنما قدر الشعراء العرب عذاب يرتضى. قبل الكويت كان بدر في بيروت، منبر الشعراء المنفيين وملاذ حداثتهم. وكانت بيروت يومها موطن الأسماء المهاجرة الكبرى: نزار قباني وأدونيس ومحمد الصافي النجفي والصادق النيهوم ومحمود درويش ومحمد الماغوط وكوكبة من الكواكب. غير أن بدر طبعها بحزنه ونحوله. وهذا المرتجف كان إذا صعد منبر الأمسية الشعرية، هزت حنجرته الأرجاء وأشعلت قوافيه شغاف الأفئدة، وكانت فرادته أنه يمر كظل ويحفر مكانه كعاصفة. عاش بدر إلى فترة جزءا من حركة «شعر» في بيروت. غير أن شعره ظل غنائيا. وفيما تأثر الآخرون بشعراء الحداثة في الغرب، روحا وإيقاعا وإمالة نحو النثر، يبدو لي أنه لم يتأثر إلا بنفسه، ولا خرج من عالمه العروبي الموشى بالتعب وأعالي النخيل. ولقد أحببت شعره الذي يجدد ذاته في النفوس مثل جميع أعمال الرواد. وأرجو أن أُسامح على رأي شخصي وذائقة ربما مخطئة، لكن بدر كان شاعر العراق في القرن الماضي. كان الشعر يأتيه ويخرج عنه كما يهطل المطر على الأرض ويطلع منها في شكل زهرة أو فراشة. أنشودة الشعر والمطر كان السياب، وديوان الحزن العربي.