كان جورج أورويل يقول إنه يريد «تحويل الكتابة السياسية» إلى فن. وقد فعل. تحولت كتاباته الصحافية في بورما والهند وباريس ولندن إلى جزء من آداب القرن العشرين، لكنه مات عن 50 عاما و10 آلاف جنيه إسترليني هي كل إرثه من تلك المقالات والمطالعات والكتب التي كان ينشرها في أي مكان ممكن. لا أدري كم هو عدد الطبعات التي صدرت بعد وفاته، ولا كمية الملايين التي درّتها. لكن لا يمضي عام دون إصدار قديمه في حلل وصيغ جديدة. آخر الإصدارات «رؤية الأشياء كما هي.. الأعمال الصحافية» تجمع، كما هو واضح من العنوان، الرسائل الصحافية التي تحولت إلى أعمال كلاسيكية. يتنافس أهل اليمين وأهل اليسار على تصنيف أورويل. لكن الثابت أنه لم يكن هنا ولا هناك ولا في الوسط أيضا. كان ضد الديكتاتورية، وضد الشيوعية، وضد الحياد. كان مع الإنسان، أو حتى مع الحيوان، إذا كان فيلا جريحا كذلك الفيل الشارد الذي أرغمه أهالي القرية في بورما على قتله، وقد حول المشهد إلى قطعة أدبية جميلة بعنوان «قتل فيل». هل تتقبل الناس من الكاتب أن يكون مستقلا؟ لا. قد تكتب في تأييد مسألة أو رجل أو بلد طوال ربع قرن، وإذا خطر لك مرة أن تنتقد ظاهرة أو عملا أو قولا نابيا، فلن يرحمك أحد. أو قد تُتّهم بالخيانة لما قدمت في الماضي. لذلك، يعيش معظم الكتّاب في خوف دائم من القارئ. إنه الرقيب الأقوى، خصوصا في الفضاءات الخالية من أي رقابة أخرى. فالقارئ، في الغالب، ملتزم، بعكس الكاتب الباحث عن الحقائق أو تقلبات التيار الإنساني. وقد يبدو أن الكاتب هو الذي انقلب أحيانا، في حين أن الأرض هي التي دارت من حوله. على أن المبادئ نفسها لا تتغير ولا تنقلب. لا الظلم ولا العدل. لا الحرية ولا الاستعباد. لا العنف ولا الرحمة. يلاحظ أورويل في «عملية شنق» أن الرجل المساق إلى الإعدام تحاشى أن يدوس في الوحل. ماذا يهمه وهو السائر إلى الحبل إن تلطّخ حذاؤه أم لا؟ لكنه الإنسان الذي لا يفقد الأمل حتى وهو يضع قدمه الأخرى في الموت. كانت أهمية أورويل عند النقاد تلك الملاحظات التي لا يراها سواه، والتي جعلت مقالاته دروسا في معاهد الكتابة والصحافة. وأذكر - بل لا أنسى - أن مطبوعة كانت تصدر في لندن، نشرت نقدا لأحد كتبي يبدو أن كاتبه لم يعجبه حرصي على الملاحظة والتفاصيل، فمدحني في النص، ولكن تحت العنوان التالي «عين جاسوسة في سمير عطا الله». لم أفاتحه في الأمر، لأنني أعرف أنه لا يعرف شيئا آخر، لا في الصحافة، ولا في الحياة، ولا في العلاقات البشرية. ولست أدري ماذا يفعل الآن، أما أنا، والحمد لله، فما زلت أفعل ما فعلته طوال حياتي. عين منفتحة على الخير والبركة والجمال، وتبلى العين الحاسدة.