عرفنا مجلة الوثيقة البحرينية واحدة من المجلات الدورية التاريخية المتخصصة العتيدة، تصدر في دولة البحرين الشقيقة.. يرأس تحريرها الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة ويهتم بها، ينوب عنه الباحث القدير والعالم الجليل علي أبا حسين، ويشرف على تحريرها السيد أحمد حجازي.. وقد أغنت تلك المجلة منذ صدورها بأبحاثها المفيدة عدداً لا يستهان به من الباحثين الراغبين في التحقيق والاستفادة، وكنت واحداً ممن اجتذبتهم بما تنشره وتقدمه من عمل توثيقي مقدر. غير أن هذه المطبوعة مثل غيرها، تبدو آخذة في الصعود والتألق، ثم لا تلبث أن تتراجع لظروف طبيعية لا يد للباحث فيها، وعندما فطن لهذه الظاهرة القائم على أمرها، حاول استدراك الأمر بتحويل العمل الفردي إلى عمل جماعي مؤسسي، وهو ما أدعو إلى الأخذ به في هذه المجلة العزيزة على كل مؤرخ وباحث. فقد نشرت مجلة الوثيقة البحرينية، في عددها السابع والثلاثين من السنة التاسعة عشرة، بحثاً تحت عنوان (تحقيق في طلب الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود الإقامة في «الزبير» أو «الكويت» وأكد كاتب البحث أنه أول من تحدث عن هذا الأمر ونشر وثائقه. والحقيقة أنني، استغربت هذا الادعاء وأنكرته، لأنني شخصياً أول من نشر تلك الوثيقة في كتابي الذي أصدرته عن الإمام عبدالرحمن عام 1412هـ/2000م.. فقد حصلت على تلك الوثيقة من دارة الملك عبدالعزيز، وأظن أنها المصدر الوحيد لتلك الوثيقة التي نشرتها (مجلة الوثيقة البحرينية) إذ فتحت دارة الملك عبدالعزيز صدرها لتلك المجلة ولغيرها لأن هدفها الأساسي هو مساعدة كل باحث للوصول إلى الحقيقة التاريخية.. ومع أنني من أوائل من كتب عن تلك الوثيقة إلا أنني تحفظت على بعض ما جاء فيها، وها هي الفرصة تسنح لي للإفصاح عن تحفظي، أمام السؤال الذي طرحه ناشر الوثيقة: (لماذا قدّم الإمام عبدالرحمن طلبه بأن يسكن) «الزبير» على سكناه للكويت؟ ثم خرج الباحث للحديث ليذكر مزايا «الزبير» وسكانها، مشيراً إلى أنهم ممن استقبل الشيخ محمد بن عبدالوهاب وناصروا الدعوة السلفية تحت قيادة آل سعود. وهو أمر غريب، لم يقل به أي مؤرخ، كما أضاف ناشر الوثيقة أن الملف لا يضم غيرها أي الوثيقة لندرتها، ولم يرد ذكرها في أي مصدر، ولا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل إلا إذا عثرنا على وثائق متممة للموضوع! وللعلم فإنه لم يذكر أحد من المؤرخين أن الإمام عبدالرحمن قد طلب أن يسكن مدينة «الزبير»، وإنما الطلب كتبه الوالي التركي على لسان الإمام عبدالرحمن ولم يكتب الإمام طلبه مباشرة فما صدق الوثيقة عندئذ؟ مع أن ناشر الوثيقة علل ذلك بأن الإمام عبدالرحمن كان يرغب سكنى «الزبير» لأن سكانها أهله وبنو جلدته، ولا أحد يجادل في ذلك. وإذا كانت معظم الكتابات التاريخية قد ركزت على محاربة والي مصر للدولة السعودية الأولى، فإنها أغفلت أن أول هجوم عليها كان من العراق، ومن عرب المنتفق بالتحديد، بتحريض من والي بغداد والقوى المضادة داخل نجد وأطرافها، لاسيما في «الزبير» خاصة من علمائها الذين هم أول من طلب تدخل السلطان العثماني، كما ذكر ذلك المؤرخ النجدي ابن غنام، وانتهت أول حملة جردتها الدولة العثمانية ضد الدولة السعودية على يد فدائي، يدعى (طعيس) اقتحم خيمة زعيم الحملة (ثويني) فقتله، فضرب المثل في نجد بفدائيته. ففي ربيع الثاني من عام 1213هـ سبتمبر 1798م، قامت الحملة العراقية الثانية بقيادة (الكتخداء) أي نائب الوالي، وانضم إليه كثير من أصحاب السفن في الخليج.. كان كل ذلك قد سبق رسالة الإمام سعود الكبير الغليظة إلى الخليفة، التي جاء فيها: (من سعود إلى سليم...) ومع أن ذلك الخطاب أعجب كثيراً من المؤرخين لما فيه بزعمهم من تورية، إلا أن الإمام سعود لم يقصد به الطعن، لأن الأتراك في الجملة لم يكونوا يتسمون بأسماء العائلات، إذ كان منهم من يتسمى باسم واحد مثل (أنور وجمال) وربما تسمى باسمين.. وحتى المماليك وجميع سلاطين مصر والشام منذ عهد الأيوبيين، ليس لهم إلا اسم واحد مثل (صلاح الدين) و(سليم) و(قلاوون) و(قنصوة) وهذا معروف في كتب التاريخ. وعلى كل حال فإن الخطر الداهم الخارجي الأول الذي قدم لتحطيم الدولة السعودية، جاء من العراق، الولاية القوية للعثمانيين وسكانها من أهل نجد والإحساء، ومن الخطر الفارسي الذي تمثل في غزو الفرس للبصرة أكثر من مرة، لذلك فإن الزعم الذي يثيره الغربيون والناقلون العرب من أن غزو الإمام سعود للعراق كان موجهاً ضد الشيعة، هو قول لا يستند إلى حقيقة حتى وإن كان السلفيون السعوديون ينكرون على الشيعة ما ينكرونه من أعمال، أنكروها من قبل على الأشراف، وهم سنة كما أنكروها على الخليفة وهو سني أيضاً.. فهدم قبة (الحسين) من قبل السعوديين في كربلاء، ليس عملاً طائفياً موجهاً ضد الشيعة، فقد هدم الإمام سعود في الوقت نفسه قبة (طلحة) وقبة (الزبير) وقديماً هدم الشيخ محمد بن عبدالوهاب قبة (زيد بن الخطاب) في العيينة. وإذاً فمنع الحج الشامي وإخراج الأتراك من مكة كما يقول ابن بشر، عملان قديمان موجهان ضد الوثنية، لا ضد الطائفية المقيتة التي لم تعرفها الدولة السعودية مطلقاً عبر تاريخها الذي ناهز الثلاثة قرون، وأؤكد أنها لن تعرفها أبداً، لأنها قامت على الإصلاح، وليس على التحزب شرقاً أو غرباً. وبهذه المناسبة، وإن كنت لا أحبذ الحديث حول أمور انتهت إلى ما انتهت إليه، إلا أنه من باب التذكير ووضع الأمور في نصابها، أقول علينا أن نشير إشارة صريحة إلى أن أول من قاوم الدعوة السلفية وأثار المشكلات في نجد، هم أبناء العمومة ممن لم يقتنع بالدعوة السلفية، ومن بين من حمل تلك الألوية ضد الدولة السعودية ودعوة ابن عبدالوهاب، هم علماء نجديون، سكنوا قرب العراق في قصبة «الزبير» وفي حماية الدولة العثمانية، منهم: 1 - إبراهيم بن ناصر بن جديد الزبيري. 2 - محمد بن عبدالله بن فيروز.. ابن خالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وتلميذه عبدالله بن داوود الزبيري، الذي ألف كتاباً في هذا الشأن بعنوان (الصواعق والرعود).. 3 - ومحمد بن علي بن سلوم، كما ذكر ذلك صاحب السحب الوابلة. 4 - وعثمان بن سند، وهو من أشدهم وطأة وعداوة وكراهية لابن عبدالوهاب وأئمة الدعوة. 5 - وسليمان بن أحمد بن سحيم، عالم الرياض الذي سكن «الزبير» فيما بعد. 6 - وكذلك محمد بن عبدالرحمن بن عفالق. 7 - وسيف العتيقي. 8 - وأحمد بن عثمان بن جامع.. وغيرهم كثير. فعلى من يريد الاطلاع أكثر العودة إلى كتاب الدرر السنية، الجزء الخامس. وفتاوى الشيخ سعد بن عتيق، الجزء السادس. رد الشيخ عبداللطيف، على عثمان بن منصور، الجزء الثاني عشر. وعلى ما كتبه ابن فيروز للسلطان عبدالحميد القائد التركي، يحثه على قتال أهل «الدرعية» كما أشار إلى ذلك حمد الجاسر في مجلة العرب، الجزء التاسع. وقد بالغ ابن عفالق الزبيري في تهكمه على الشيخ محمد بن عبدالوهاب في رسالة يجدها من يريد التعرف عليها في مجموعة الرسائل النجدية، وفي كتاب السحب الوابلة وفيما كتبه ابن بسام في تاريخه، إذ زعم أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ادعى النبوة وتبعه في هذا القول شخص يدعى القباني، عراقي الأصل، وأضاف مزيداً من الكذب، فذكر أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أخذ دعوته من بقايا صحف مسيلمة الكذاب، فأي صحف تلك وأين توجد، فضلاً عن كتابه الذي سماه (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبدالوهاب). وعليه، لم يكن الإمام عبدالرحمن الفيصل يجهل هذه الحقائق الدامغة، فيطلب حماية من بذل كل جهده لإجهاض دعوة أسرته فيلجأ إليه، ومثل هذا الزعم يناقض منطق الأشياء ويأباه العقل السليم. فمثله لا يضطر للجوء إلى مناوئيه مهما كانت الظروف. ولهذا يكون زعم لجوئه إلى «الزبير» وتفضيلها على «الكويت» غير صحيح. يضاف إلى هذا ميزات أخرى كثيرة للكويت على الزبير، منها قربها إلى نجد مقارنة بالزبير، وعلاقة آل سعود بحكامها التي يمكن أن يقال عنها في حده الأدنى إنها كانت علاقة طبيعية، لا يشوبها توتر ولا تكتنفها أية نية مبيتة من هذا الطرف أو ذاك. وأنبه كل أحد أن أي وثيقة لا بد أن تخضع للتمحيص والتثبت مما ورد فيها، وإلا فقد تفقد مسمى الوثيقة. أردت التوسع في هذا لأوضح حقيقة واحدة، مفادها أن أول من قاوم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي أيدها وناصرها آل سعود، هم أهل نجد وأبناء العمومة والخالات والخؤولة، وهذه سنة الله الكونية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.