فيما كانت أنظار المراقبين والمحللين السياسيين تتجه نحو سوريا والعراق لمعرفة ماذا تفعل أمريكا لمواجهة تمدد داعش، وفيما كانت التقارير الواردة من أوكرانيا تتحدث عن مواجهة روسية أمريكية في شرق أوروبا، جاءت الأنباء من واشنطن عن تطبيع العلاقات الأمريكية الكوبية بعد خمسة عقود من القطيعة الدبلوماسية والاقتصادية. كانت هناك قطيعة أمريكية لهذه الجزيرة الصغيرة، التي تضم دولة صغيرة رابطة بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت إلى ما قبل استيلاء الثوار بقيادة فيديل كاسترو واحة للاستثمارات الأمريكية، وتشكل منتجعاً لأثرياء أمريكا؛ إذ كانت يخوتهم تقطع المسافة بين ميامي وهافانا؛ لينعم الأثرياء بالراحة والاستجمام؛ إذ كانت تضم أجمل الفنادق والنوادي الليلية، وبعد الثورة خرج الأثرياء، وبقيت أمريكا تحتفظ بسجن في غوانتنامو، وتستضيف فيه أمريكا إرهابيي العالم. المقاطعة الأمريكية الدبلوماسية والحصار الاقتصادي جعل لكوبا مكانة دولية وإقليمية، واستفاد الكوبيون من صراع القطبين الأمريكي والسوفييتي؛ فتدفقت الأسلحة والاستثمارات السوفييتية، ونجحت كوبا في أن تكون (مخلباً) للسوفييت، وبقيت وفيَّة للشيوعية.. وبدلاً من أن تكون منبوذة من قِبل محيطها الإقليمي في أمريكا اللاتينية أصبحت إحدى القوى الإقليمية في منطقتها، وجلبت إلى جانبها حلفاء تمردوا على أمريكا، كفنزويلا وبوليفيا، وأصبحت مقبولة ومرحَّباً بها في البرازيل والأرجنتين والأوروغواي، وهكذا سقطت سياسة الحصار والمقاطعة الأمريكية. ولكن ما الذي جعل أوباما يعيد العلاقات مع هافانا بعد أكثر من خمسين عاماً؟ لمعرفة بماذا يفكر الرئيس الأمريكي والأمريكيون عموماً، ودوافعهم للتوجه إلى كوبا في هذا الوقت، علينا أن ندرس ونعرف ماذا يجري في أوكرانيا والشرق الأوسط. فواشنطن التي تعمل على حصار روسيا وتطويقها من خلال قضم فضاءاتها الاستراتيجية بالتوسع نحو الحدود الروسية، وضم دول تشكّل عمقاً استراتيجياً لروسيا إلى الحلف الأطلسي الذي تقوده أمريكا، لا تريد أن تبقى خاصرتها الاستراتيجية ضعيفة، يمكن أن تخترقها روسيا. وكوبا هي الخاصرة الاستراتيجية التي تستطيع روسيا النفاذ منها، ويمكن أن تتوسع المساحة إلى فنزويلا وبوليفيا؛ فهذه الدول تستقبل أسلحة روسية واستثمارات صينية. إذن، يجب تحصين هذه الخاصرة الاستراتيجية بإعادة كوبا إلى واحة الاستثمارات الأمريكية، خاصة بعد خفوت الوهج الاشتراكي الكوبي، والتفرغ لتطويق روسيا في أوكرانيا ودول البلطيق، من خلال تطبيق استراتيجية (التجريف والتطويق). تجريف المناطق والدول التي تتحالف مع روسيا في مناطق العالم، ومنها كوبا، وبعدها فنزويلا والشرق الأوسط؛ إذ تعد إيران مؤهلة للتطبيع من قِبل الأمريكان، وبعدها تصبح سوريا مجرد تابعة لإيران، ويجري لها ما جرى لمن تسير الأمور فيها. وتطويق روسيا بحصارها من خلال قضم دول فضائها الاستراتيجي، بدءاً بدول البلطيق التي أصبحت موالية للحلف الأطلسي، وأوكرانيا التي تجري محاولات حثيثة لضمها للركب الأمريكي.