لعل الطابع الذي يشم ثقافتنا ومحيطنا الاجتماعي والنفسي والوجداني التواشج أو التماهي مع المعاني والأحاسيس الرمادية المرهقة وجودياً لمرحلة السادية اللاشعورية في التعاطي مع الذات والآخر والكون، تتحول المشاعر الفرائحية والذات المبتهجة المتفائلة في مجتمعنا إلى نتوءات تباين وتخالف السائد الوجداني العام الذي لا يتساوق مع فلسفة وقيمة الجمال لمرحلة انتباذها باعتبارها خلاف الأصل في الوجود بوصف الوجود والحياة لحظة ورحلة معرة وعذاب وكبد في تفسير رديء لدلالة آية (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، نظرتنا الداكنة للحياة جعلتنا نعتاد التماس مع البؤس واليأس والحزن والخوف وغيرها من معاني تكرس تبخيس كل جميل وبهي في الحياة حتى تحولت الفرحة والمتعة إلى معاني ذات قيمة متدنية كما لو كانت هي الاستثناء مقابل ذهنية الألم التي تآلفت مع المعاناة وتحولت إلى أصل، بل تنظر أدبياتنا للمعاناة وتدشنها أنها الأساس في الوجود ويتفوق من كتب أو غنى في محيط هذه المشاعر والأحاسيس السلبية. أحسن الأديب والشاعر الكبير إيليا أبو ماضي في تلمس مأزق وجداناتنا الغائرة داخل فضاءات مخيالاتنا وأعماق أعماقنا في قصيدته المترعة بنفس الوجود «أيهذا الشاكي»: أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَليلا إِنَّ شَرَّ الجُناةِ في الأَرضِ نَفسٌ تَتَوَقّى قَبلَ الرَحيلِ الرَحيلا وَتَرى الشَوكَ في الوُرودِ وَتَعمى أَن تَرى فَوقَها النَدى إِكليلا هُوَ عِبءٌ عَلى الحَياةِ ثَقيلٌ مَن يَظُنُّ الحَياةَ عِبءً ثَقيلا وَالَّذي نَفسُهُ بِغَيرِ جَمالٍ لا يَرى في الوُجودِ شَيئاً جَميلا لَيسَ أَشقى مِمَّن يَرى العَيشَ مُرّاً وَيَظُنُّ اللَذاتِ فيهِ فُضولا لا شيء في أدبياتنا الدينية والدنيوية يحفل بالحياة والإشراق والتوهج والبهجة في حالة من التآزر على تحويل الحياة إلى معتقل للعقل والروح والوجدان وتأهب للرحيل قبل الرحيل، على مستوى طبيعة تديننا تتكاثف النصوص الدخيلة على الدين والرؤية المبتذلة عنه والتي تذم الحياة وتبشر بالتجانب عنها وتحيل كل الدنيا إلى دين بينما الدنيا دين ودنيا، بينما الدين مصدر وعي وعقل خلاق كما هو محرض على عمارة الأرض والسعي فيها قال تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) نجد نمط تديننا يدعو إلى الخمول وكراهية الحياة والمعرة والعزلة والتفقر الصوفي «نموذجاً» حينما ينخرط شاب في تجمع ديني ويعتبر نفسه إنساناً متديناً ويتحول ضمن فئة الملتزمين بوصفهم، كيف يتخلى عن مظاهر الجمال والأناقة ويتدثر بالزي والمظهر الرث بالإضافة إلى تجفف عاطفته ولغته وتحوله عن العفوية إلى التوقر والشحوب الوجداني والأخلاقي تحت وهم أن الدين يدعو إلى البذاذة وأن «البذاذة من الإيمان» بحسب المأثور النبوي الذي دشنوه وأشباهه من النصوص المرتبكة. علاقتنا في الأدب والشعر والأغنية والفلكلور تحكي تهيمنا بالحرمان والحسرة والفراق والشجن واندغامنا اللا شعوري فيها حتى الحب أحببناه لأننا أنزلناه من عليائه وأحلناه إلى عذاب، لا تطربنا قصيدة أو أغنية أو قصة لا تحمل طابع المأساة والألم لأنها لا تتماس مع ذواتنا وواقعنا العام والخاص الذي يتموه بالفشل والحيرة والإحباط الذي أفقدنا السلام مع أنفسنا ومع الحياة، كأن علاقتنا مع الفن والأدب التراجيدي تحكي تزامننا مع التراجيديا اليائسة الذابلة، حيث لا نجد أنفسنا مع الفن والأدب الذي يمور بالحياة والإشراق والإبداع لأنه لا يحرك فينا شيئاً داخلياً؛ إذ أعماقنا اتسقت مع المشاعر غير الجميلة فلا تطرب وتهتز إلا مع عنف اللغة بما فيها عالم الفن والأدب والمثال والحكمة والقصة، لنكن أجمل وأكثر سلاماً مع أنفسنا والكون حولنا، لتشرق أرواحنا لنحيا كل الحياة فلا نخسرها ونخسر أنفسنا، لنرفع عن وعينا وأرواحنا ستائر الهم والوهم والوهن التي ورطتنا بها ثقافتنا بوصفها الطبيعة وجعلتنا نصدق أن هذه هي حقيقة الحياة، من أغنية لأم كلثوم «وحنا ياروحي مش حنعيش مرتين» الحياة تجربة واحدة فلنواجهها من خلال ذواتنا لا من خلال الملاءة الثقافية الرمادية التي أسدلها علينا الضمير الاجتماعي والتدين المحلي المحور، إن تعَشّق الحزن والمعرة يعني أن الإنسان قد فقد حبه لنفسه وسلمها لليأس، من يحب نفسه لا يسمح لها بالتماهي مع مشاعر الهروب والانسحاب، بل يواجه الحياة بروح متوهجة بالجمال والسلام والحب، نحن بحاجة لأن نمارس الحفر في لا وعينا المطمور بقيم ومعاني الرحيل والعجز والحزن حتى نخليه منها وندشن عصرنا الوجداني والروحي من خلال قيم الجمال والفرح والطاقة والعطاء والحب؛ فنحن المالك الحقيقي لأنفسنا بما فيها من مشاعر وأحاسيس، من المهم أن نتحمل مسؤولية استعادة جذورنا العميقة التي دفنت بقوة العنف اللغوي الاجتماعي والديني وإعادة رسمها بما نستحقه في هذه الحياة من بهاء ومتعة فالحياة ملك لنا ونحن من يمتلك تشكيلها ونحتها ونقشها ولا أحد غيرنا، هندسة أعماقنا تكمن داخلنا وليست خارجنا ذلك أن كل إنسان له جغرافيا لا تتداخل مع جغرافيا وخرائط أخرى، حتى اللغة التي نتعاطاها فيما بيننا لغة تحمل كمية من الطاقة السلبية التي تهشم مشاعرنا وطموحاتنا، في بيئتنا قلما تواجه إنساناً يترعك باللغة الملهمة الضاخة للإبداع، بل خلاف ذلك فعامة حكينا وحواراتنا لا تحمل غير لهجة التثبيط والمحتويات اللغوية السلبية ما يعني أننا نتبادل التكدير والتبخيس ودعوات الفشل.