نتوقف بالدواخل العملاقة في الباليه دو توكيو، وهي فكرة عميقة مثيرة للتفكير والتأمل، هي دعوة لرحلة استقرائية ً لبواطن الذات، بواطن الجسد وبواطن النفس والذهن، فكل عمل تركيبي هو استعارة شعرية تدعوك للبحث في دواخلك ومخاوفك، فتتنقل بين أجنحة القصر حيث قامت مجموعة الفنانين بتحويل طابقي القصرلملحمة نفسية وذهنية وجسدية من تركيب فني لتركيب آخر ننتقل للتوغل في الذات، في اكتشاف عميق يبدأ من جلودنا وينتهي بأكثر أفكارنا حميمية. يستوقفنا الفنان ستيفان تيدي بعمله المسمى (الملاذ) تقبل على كوخ خشبي يشبه الأكواخ التي يلجأ إليها متسلقو الجبال للاستراحة، وهي الأكواخ التي يحلم المتسلق ببلوغها كملاذ من قسوة الطبيعة ومن كل ما يهدده من حيوانات أوضياع، إلا أن كوخ ستيفان المنصوب في باليه دو توكيو يفاجئنا بأمطار تخترق سقفه وتحول الداخل لما يشبه المنطقة العراء حيث تلحق قسوة الطبيعة اللاجئين، الفنان يحول الملاذ لتهديد ويقود بذلك المتلقي لمساءلة ذاته عن ماهية الملجأ، ويصل لحقيقة أن الملاذ الذي نبحث عنه في الخارج هو ربما بدواخلنا قبل وبعد كل شيء، رسالة مختصرة وحادة ينصبها النفان في ذلك الكوخ المنهوب بالأمطار. عمل عميق يجعلك تقف بنافذة الكوخ ناظرا للداخل برعب، إذ لايعود الأمن أمنا وإنما أنت الملاذ الوحيد لذاتك من الضياع والافتراس. وفي قاعة أخرى قام الفنانان كريستوف بيرجادور وماري بيجوس ببناء عملهما الفني المسمى:E.17 Y.40a.18 C.28 X.40 0.13,5 والمتكون من سلسلة من المنحوتات مستقاة من رسوم المرضى النفسيين، والتي قام المرضى برسمها أثناء اختبار نفسي طلب فيه منهم رسم شجرة. كل رسم من تلك الرسوم يمثل تصميماً لاواعياً للحالة النفسية للمريض والتي تمده بتلك الأشجار المتخيلة والمميزة، بحيث تمثل كل شجرة بورتريهاً للمريض الذي رسمها، والتي قادت الفنانين كريستوف وماري لاقتباسها، فقاما بتجسيد تلك البورتريهات في منحوتات أشجار بالأبيض، مصنوعة من الراتينج والألياف الزجاجية. ولقد قام الفنانان بعرض منحوتات تلك الأشجار الثلجية البياض في قاعة ضخمة من بياض كامل لسقفها وأرضيتها وجدرانها، ومضاءة بنور أبيض يوحي بالحالة النفسية للمرضى ورؤيتهم للعالم، مشاعر طاغية تبلغك بمجرد وقوفك على باب القاعة، ويتماهى معها المتلقي وذلك وفقا لتاريخه وأمراضه وصدماته ومواقف فشله، وهو عمل رهيب ينظر لأعماقك ويكشف لك من دواخلك بمجرد مرورك بتلك القاعة. وبالمقابل قام الفنانان (باتريك جولي) و(رينولد رينولدز) في عملهما الفيديو المشترك (البيت المحترق)، بتقديم مشاهد مصورة قلقة لدواخلنا المسكونة والمتآكلة بالنيران، والمشلولة بإنكارها للواقع. تثير دهشتنا المشاهدُ المتتابعة على الشاشة أمامنا، ولانصدق ما نرى، إذ يبدو أن سكان البيت المحترق مستغرقين في أنشطتهم ومشاغلهم اليومية، غير واعين بالدراما المرعبة التي نراقب برعب حدوثها في المطبخ وغرفة المعيشة وغرفة النوم: اللهب يلتهم الأثاث في حين أن الأشياء تذوب من الحرارة. في هذا الجو الداخلي الخانق تصل النار إلى السكان، والذين يبدو أنهم غير قادرين على رد الفعل أو القيام بإطفاء النار أو حتى الوعي بخطرها أو حتى الشعور بالخوف، هم سكان في حالة من السلبية التامة والإنكار للواقع، ويمضون في هذه السلبية حتى يبدأون في الاحتراق هم أيضاً. هذا التمثيل الدرامي الشعري والمرعب في نفس الوقت والحس الكارثي يعمل على شد المشاهد عميقا داخل هذا السيناريو الذي يخاطب مخاوفنا الشخصية والجماعية من الكوارث المنزلية والنوازل الطبيعية، ومدى استعدادنا لمواجهتها أو قدرتنا على ذلك. فيبقى ذلك التساؤل قائماً وأكثر تهيدياً من الكارثة نفسها. أيضاً تفاجأنا الجدارية الضخمة في الطابق الارضي من قصر طوكيو، والتي تتكون من سجاجيد سميكة من السخام المجسد لنسيج الكانفاس، ولقد استغرق صناعة كل سجادة منها ما يزيد عن الشهر، ولقد قام الفنان الصيني لي جانج من بكين بصناعاتها بمساعدة حرفيين صينيين وذلك من سخام قام بجمعه من عوادم سيارات وشاحنات قديمة، ويقف هنا (لي جانج) كشاهد على مدينته المشهورة بالحرف التقليدية، ويبحث كشاهد في التأثيرات المدمرة التي تنجم عن المعاصرة والتطور الخاطف، وعلى كل سجادة قام الفنان بإعادة رسم مشاهد تجريدية من لوحات سابقة له، أومن رسوم للمحات أو أدوات من محترفه. يدهشك العمل الشاق المستثمر في انتاج تلك اللوحات، والتي تحمل في ذات الآن حساً بزمن آخر، زمن خارج زمننا المعهود، مما يخلق حساسية ووعياً جديداً بالعمل الفني. التماثيل الأكثر إدهاشاً للفنانة (يو لي)، والتي عملت لسنوات منذ 2008 في استديو مسمى (آم) في شانجاهاي، و لقد قامت على مدى سنوات بدراسة التماثيل القديمة من الصين وكمبوديا ووالهند، ثم قامت باستضافة موديلات حية في محترفها، وقامت بمراقبة محدوديتهم في مختلف أوضاعهم الجسدية، حتى إذا اصابها والموديل التعب تقوم بنحت ذلك الموديل من الذاكرة، وبالإضافة لتلك التماثيل المعروضة في قصر طوكيو قامت الفنانة (يولي) بتنفيذ تمثال تفاعلي، وذلك باستخدام مكعبات من الجبس مصنوعة يدوياً، والتي ستقوم بتركيبها أو تحريكها بشكل دائم كنوع من العرض المسرحي الخفي والمتحدي لذاكرة الجمهور، إذ وعلى مدى أيام المعرض ستختفى تشكيلات وتظهر تشكيلات لكأنما يد خفية تحركها وتتحدى المتلقي لتقصى مصدر ومدى تلك التغيرات. وبالنهاية فإن مجموعة هذه المعارض المندرجة تحت اسم (الداخل) هي معارض مرهقة نفسياً وعقلياً وجسدياً، لكنها تستحق المشاهدة بما تحرضه في المتلقي، ودفعه لمساءلة توقعاته وأساطيره وأدواته المعرفية، وإعادة الإيمان بهذا المتلقي كمشارك في العملية الإبداعية.