×
محافظة المنطقة الشرقية

تكريـم لا بد منه

صورة الخبر

عندما تشتري بضاعة من أحد المحال وتكون هذه البضاعة كبيرة الحجم كغرفة نوم مثلاً أو طاولة سفرة، فإنك بحاجة إلى من يوصلها إلى منزلك، فأنت بالطبع لا تستطيع بسيارتك الخاصة حملها وإيصالها، وقد يسعفك الحظ إن كان هذا المحل الذي باعك هذه البضاعة لديه خدمة إيصال السلعة، هذا الأمر يجعلنا نستشعر مدى أهمية الشحن في حياة الناس قديماً، خاصةً لفئة التجار الذين يجلبون هذه السلع من دول بعيدة جداً، حيث يشكل الشحن محوراً أساسياً في تجارتهم. بين زمنين صفحة اسبوعية توثّق فجوة الفارق بين جيلين، جمعهما تاريخ الماضي ونشوة الحاضر، وأملهما في المستقبل ولا شك أن شحن البضائع كان معروفاً منذ القدم حيث يُعد عماد التجارة، وقد كان نقل البضائع من قُطرٍ إلى آخر يشغل بال كثير من التجار، بل كانت تُبنى عليه ممالك سابقة كانت تمر بها طرق القوافل التي تحمل الخيرات، لذا كان الازدهار حليف تلك الممالك التي تمر بها تلك القوافل. ومن أشهر تلك القوافل التي عرفها التاريخ تلك والتي ذكرت في القرآن رحلة الشتاء والصيف، وهاتان الرحلتان كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين كل سنة، أولاهما شتاء إلى "بلاد الحبشة" ثم اليمن يبلغون بها "بلاد حمير"، وأخراهما صيفاً إلى الشام يبلغون بها "مدينة بصرى" من بلاد الشام. وكانت طريقة نقل البضائع تتم قديماً بواسطة الحيوانات، والتي أشهرها الإبل، حيث تنتظم القوافل التي تحمل النفيس منها وتشق عباب الصحراء دون كلل أو ملل، وكان هذا بالطبع في جزيرة العرب وما جاورها، أما بقية البلاد الأخرى فقد كانت الخيول التي تجر العربات البدائية تقوم مقام ذلك، إضافةً إلى الحمير والبغال، ومع تقدم الزمن وتوسع التجارة واكتشاف أراض جديدة شاركت السفن في هذه المهمة، حيث اختصرت الوقت في إيصال البضائع من الدول البعيدة التي لو ترك النقل فيها للحيوانات لاستغرق ذلك أياماً وشهوراً من الزمن. قطّاع الطُرق ومغامرات «اللوري» تلاشت مع الأمن ووسائل النقل الحديثة وبقيت الذكريات شاهدة على جيل عانى من السفر مسالك الصحراء كانت التجارة العالمية البرية فيما مضى والقادمة من الشرق الآسيوي والمتجهة غرباً تسلك مسالك معروفة وواضحة عبر الصحراء، ولما كانت اليمن وبعدها الحجاز ملتقى هذه الطرق، فقد سلكت القوافل طريقين رئيسن تسير فوقها القوافل المحملة بالبضائع، والطريقان البريان هما؛ الطريق البري الموازي للبحر الأحمر بين اليمن وبلاد الشام عبر الطائف ومكة ويثرب، وتتفرع منه خطوط تتجه غرباً وشرقاً، وقد عُرف هذا الخط ب"طريق البخور" أو "طريق العطور"، وكانت نقطة الانطلاق تبدأ في "قتبان" في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة و"حضرموت" الواقعة شرقاً و"سبأ" المتاخمة لهما شمالاً، أمّا الطريق الثاني فكان ينطلق من جنوبي شبه الجزيرة العربية باتجاه الشمال وصولاً إلى "جرهاء"، ومنها إلى بلاد ما بين النهرين، إمّا براً أو في قوارب تبحر في الخليج العربي وصولاً إلى "نهر الفرات"، ومن هناك كانت البضائع تتوزع في أسواق المنطقة. أمّا الطريق الذي كان يخترق شبه الجزيرة العربية عرضاً، فكان يصل مكة ب"وادي الرافدين" ويتفرع عند حائل إلى فرعين، أحدهما يصل الى مصب "نهر الفرات" مروراً بعدد من الأماكن مثل "السِفن" و"فيد"، وقد عرف هذا الطريق لاحقاً باسم "درب زبيدة"، أمّا الفرع الآخر فكان يتجه شمالاً شرقاً ماراً ب"تيماء" و"دومة الجندل" وصولاً إلى "وادي الرافدين" عند "مدينة بابل التاريخية"، وهناك طريق بري آخر كان يمر في أقصى شمال شبه الجزيرة ويسير بمحاذاة "الفرات" حتى "مدينة ماري" ثم غرباً إلى "تدمر" ومنها إلى "حمص" و"دمشق" و"الموانئ السورية، يلتقي الطريق البحري براً ب"شبوة" في "حضرموت" ويتحول إلى طريق بري يصل الى "البتراء" ومنها إلى "غزة" فمصر، وكان هذا الطريق يربط بحراً الهند وسيلان والصين بمدينة عُمان عبر البحر الأحمر وصولاً إلى مصر. محط القوافل وعند الحديث عن الشحن للمؤن والسلع التجارية فلابد أن نشير إلى أن ذلك الشحن كان عماداً للمدن التي يتم الشحن منها أو التفريغ فيها، ومن أقدم المدن التي اشتهرت بذلك على مستوى العالم قديماً هي مكة المكرمة التي كانت مركزاً دينياً ومحطة تجارية، حيث كان الحج وإلى جانبه التجارة مورداً مهماً لقريش، فكانت تبيع ما لديها للقادمين من البادية والقرى والمدن البعيدة، وتشتري ما يحملونه معهم من سلع، وكانت هذه السلع والبضائع تنقل بدورها إلى أسواق العراق والشام، حيث كانت تبادل بسلع ومواد يحتاجها أهل الحجاز، ونظم زعماء قريش حركة التبادل التجاري ووضعوا لها بعض القواعد والضوابط وأقاموا الأسواق الموسمية، ومن بينها "سوق عكاظ" بين مكة والطائف، و"سوق مجنَة" العائد لبني كنانة وكان يقع في أسفل مكة، و"سوق حباشة" في تهامة، وكذلك "سوق ذي المجاز" قرب عرفة. وقد شملت سلع التبادل التجاري آنذاك القمح والزيتون ومصنوعات بلاد الشام، وكذلك الذهب والأحجار الكريمة والعاج والتوابل والأقمشة على أنواعها والآنيات الفضية والنحاسية، إضافةً إلى "خشب الصندل" من الهند والصين، والبخور والعطور والجلود المدبوغة والأحجار الكريمة من اليمن، وكانت أفريقيا تُصدر الذهب والعاج والجلود وخشب الأبنوس وريش النعام، وجاء اللؤلؤ والياقوت من البحرين، ومن فارس والعراق واليمامة استوردت مكة المواد الغذائية والسلع الصناعية. وحوّلت تجارة مكة المزدهرة تجارها إلى طبقة غنية بشكل كبير، وذكر "محمد بن عمر بن واقد" في كتابه (المغازي) أن بعض القوافل كانت تتألف من (1000) جمل، أو حتى من (2500)، وكانت المتاجر تقدر بنحو (50) ألف دينار، واتصل تجار مكة بالحبشة والصومال عن طريق اليمن البري، فكان التجار المكيون يستخدمون ميناء الشعيبة للاتصال بالحبشة والصومال ومصر، ويقال أنهم استخدموا سفناً يملكونها، كما مارست النساء المكيات التجارة، ومن بينهن "خديجة بنت خويلد" -رضي الله عنها- التي كانت تتاجر بمكة وتستأجر الرجال لنقل تجارتها إلى بلاد الشام، ومثلها "أم أبي جهل" التي كانت تتاجر بالعطور المستوردة من اليمن. نقل السيارات وفي بدايات القرن الماضي، ومع انتشار السيارات التي تولت نقل البضائع براً من الدول المجاورة أو الموانئ كانت البدايات بسيطة جداً ومتواضعة، حيث تولى عدد من أصحاب السيارات عملية النقل بسياراتهم القديمة آنذاك مثل "اللوري"، وامتهن عدد منهم ذلك وصار يحمل في سيارته البضائع بمساعدة شخص كان يسمى ب"المعاوني"، ولم تكن الطرق في بداياتها معبدة بل جلها صحراوية، مما يعني سلوك السيارات المحملة بالبضائع طرقاً وعرة، فكانت المدة تستمر أياماً إلى حين إيصال البضائع لأصحابها، وكثيراً ما تتعرض تلك السيارات إلى العطل فتبقى في الصحراء أياماً عدة، حتى يحضر مهندس لإصلاحها أو إحضار قطع الغيار من المدن البعيدة، وقد يضطر السائق إلى الركوب مع أحد السيارات المارة بقربه من أجل إحضار نجدة لسيارته المعطلة بينما يبقى "المعاوني" بجانب السيارة لحمايتها وحراستها إلى حين عودة صاحبها بالنجدة، ويكون لدى هذا "المعاوني" ما يكفيه من الطعام والشراب ليوم أو يومين. وقد حدث العديد من القصص التي عانى فيها من يبقى بجانب السيارة، حيث قد تتأخر النجدة وينفذ ما لديه من طعام وشراب، مما يعرضه للهلاك، ومع تقدم الزمن وورود السيارات الحديثة المعدة للنقل بسعة أكبر ك"المرسيدسات" و"التريلات"، وكذلك تعبيد الطرق صارت مهمة النقل أسهل، كما انصرف المواطن عن هذه المهنة بعد أن وجد في غيرها من الدخل ما يكفيه بالانخراط في الوظائف الحكومية والأعمال التجارية والزراعية وغيرها. أخطار السفن ومع انتشار الشحن بالسفن فقد صار أمر الشحن ميسراً، حيث باتت السفن تحمل مئات بل آلاف الأطنان من البضائع، وتوصلها إلى الموانئ التي تتولى إفراغ الحمولة، ومن ثم يستلم كل مستورد وتاجر بضاعته ومن ثم تخزينها في المستودعات، ومن ثم توزيعها على تجار الجملة، ومن ثم تجار التجزئة حتى تصل إلى المستهلك، ولكن كانت هذه البضائع التي تأتي مشحونة عبر السفن التي تجوب البحار محفوفة بالمخاطر، حيث يتربص الغرق بها لعدة أسباب كارتطام السفينة بالبحر بالصخور وغرقها، أو تعرضها إلى سوء الأحوال الجوية كالرياح العاتية والعواصف الممطرة كما حصل في "سنة الطبعة" التي حدثت عام 1277ه، وراح ضحيتها عدد من البحارة، وغرقت العديد من السفن التي كانت تحمل البضائع وأدت إلى العديد من الخسائر في الأرواح والممتلكات، أو تعرضها إلى الاعتداء من سفن أخرى، مما أدى إلى غرقها، خاصةً في البحار التي تشهد اندلاع الحروب. غرق النقود ومن أشهر السفن التي غرقت سفينة "إس إس جون باري" الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية ويبلغ وزنها (7200 طن)، ولقد تركت السفينة القافلة التي كانت معها لتذهب في مهمة سرية إلى الظهران في المملكة العربية السعودية، لكنها نُسِفت من قبل الغواصات الألمانية على بعد (185كم) من السواحل العمانية في التاسع من رمضان عام 1363 ه الموافق 28 أغسطس 1944م، وقد أدى ذلك إلى موت اثنين من أفراد الطاقم خلال النسف، لكن أُنقذ باقي أفراد الطاقم في اليوم التالي، وقد كانت السفينة تحمل ثلاثة ملايين عملة معدنية من الفضة فئة ريال سعودي سكت في أمريكا، و(26) مليون دولار من سبيكة الفضة، وكان أحد أسباب الشحنة أن المملكة العربية السعودية لم تكن تتعامل بالعملات الورقية في ذلك الوقت، وكانت ستستخدمها لدفع المال للعاملين في بناء مصافي النفط، وقد غرقت السفينة بما تحمله من نقود واستقرت في قاع البحر. وسائل حديثة وشهدت وسائل نقل وشحن البضائع ثورة جديدة في عالمنا اليوم، حيث أصبحت السفن الكبرى تنقل آلاف الأطنان من مختلف البضائع كالسيارات والأثاث ومواد البناء وغيرها من المؤن والأغذية، وتجوب عباب البحار في أمن، حيث زودت هذه السفن والبواخر بأجهزة تقنية حديثة تمكنها من السير والوصول إلى وجهتها في مواعيد محددة، وقد صممت الكثير من السفن التجارية في الوقت الحاضر لكي تحمل ما يسمى ب"الحاويات"، وهي عبارة عن صناديق كبيرة مصممة بحيث تنقل على الشاحنات أو عربات القطار، والتي ازدادت شيوعاً منذ منتصف القرن العشرين، كما صممت الكثير من السفن التجارية في الوقت الحاضر لكي تحمل هذه الحاويات، أو نوعاً معيناً من البضائع كالنفط أو الحبوب أو الحديد الخام، وفي العديد من الحالات تتطلب السفن مرافق متخصصة في الموانئ، لذلك زودت معظم الموانئ الكبيرة بإمكانات تحريك الحاويات بواسطة الرافعات العملاقة وأجهزة الرفع الأخرى التي تنقلها بين السفن والشاحنات الجرارة وعربات سكك الحديد. وتولت القطارات مهمة إيصال البضائع من الموانئ إلى كبريات المدن في معظم الدول، إضافةً إلى ذلك تولت الطائرات مهمة الشحن الجوي لبعض المؤن التي تستدعي سرعة الوصول إلى الأسواق، خاصةً المواد الغذائية الطازجة التي تزخر بها الأسواق الكبرى لتموين المواد الغذائية التي تصل من شتى بقاع العالم في وقت قياسي، مما جعل من مهمة شحن البضائع مهمة سهلة وسلسة وميسرة، وبذلك انتهى عصر المعاناة التي كانت تشهدها سابقاً، كما صار النقل بأنواعه البحري والبري أكثر أماناً مع التوسع في افتتاح شركات التأمين التي صار التجار يتهافتون عليها من أجل ضمان عدم خسارتهم فيما لو تعرضت هذه الوسائل للخطر والبضائع للتلف. شحن سريع وصار بالإمكان اليوم أن تشتري أي سلعة تحتاجها وأنت في منزلك، تتصفح الانترنت دون أن تحمل هم كيفية وصولها إليك، حيث انتشرت وسائل الشحن السريعة التي تجلب سلعتك من أي مكان تسوق في العالم، وذلك بضغطة زر، حيث تتواصل معك شركة الشحن من أجل أن تستلم بضاعتك في وقت قياسي لا يتصوره عقل، كما تستطيع أن تشحن ما تريد من بضاعة أو أثاث أو مؤن إلى أي شخص في أي بلد في العالم في وقت قصير وبسعر معقول في متناول الجميع، كما بإمكان أي شخص أن يشتري ما يشاء إذا سافر خارج البلاد مهما كبر حجمه، ومن ثم شحنه إلى بلده عن طريق شركات الشحن المتخصصة في هذا المجال، فبالأمس القريب كان من يسافر يتمنى أن يقتني ما يعجبه من معروضات سلع ذلك البلد ذات السعر المعقول والجودة، ولكن تمنعه من ذلك صعوبة نقله، خاصةً إذا كان قادماً بالطائرة التي لا تتيح للشخص سوى حمل أمتعة محددة الوزن قد لا تتعدى عشرات الكيلوجرامات، ولكن اليوم أصبح ما كان مستحيلاً سهلاً ميسراً.