تتحدث التقارير باستمرار عن انتشار الاكتئاب في العالم، فهو المرض الذي يغزو البشرية، فبعد اللهاث، يأتي السؤال الأزلي: ثم ماذا؟! أو في الدارجة «وبعدين»؟! حتى لحظات الفرح، يعتبرها بعض المتشائمين عبئاً عليهم، ذلك أنها غير مخوّلة بأن تمتد، إذ يعود الإنسان إلى حالته الطبيعية بعد نشوة الفرحة والبهجة. الاكتئاب ليس مرضاً يرتبط بالفقراء، بل على العكس ربما انتشر بين الأغنياء أكثر، ذلك أن البسطاء يكدون ويكدحون ولا يجدون وقتاً طويلاً للتفكير المتفاقم، كما هي حال عالم الوظيفة اليوم. بالطبع، نأتي إلى نقيض الكآبة وهي السعادة، كذلك الأمر حين نتحدث عنها، بين من يعتبرها طارئة، ومن يعتبرها أصلية، لهذا جاءت الأديان كلها، لتسعى لجعل الإنسان أكثر سعادةً وأقل شقاءً. ومع تنامي مستوى المعيشة والرخاء، ومع ازدهار المال إلا أن الشكوى موجودة، لدى كل الطبقات، الشكوى لازمة، ذلك أنها مرتبطة بصرخة الإنسان منذ الولادة، ما جعل شاعرنا العربي القديم، يطرح سؤالاً فلسفياً منطقياً حين قال: كلّ من لاقيت يشكو دهره ليت شعري، هذه الدنيا، لمن؟! بين الكآبة والسعادة مرحلة يمكنني أن أسميها المصالحة مع الواقع، بالإضافة إلى ملء الوقت بالقراءة والبحث والتفكير والعمل والهوايات والرياضات.. النشاط موضوع يرتبط بالسعادة، حتى المتعة التي تكافئ بها نفسك بعد أن تنجز أمراً يكون طعمها مضاعفاً. لهذا نجد على مر التاريخ أغنياء تنوء بأرقام حساباتهم العصبة أولو القوة، لكنهم محاصرون بالكآبة، محاطون بالضجر! قبل أيام استمعتُ إلى مقطعٍ لداعية شعبي، يعظ الناس باللهجة القصيمية، يحكي اختلاف الواقع بين الأمس واليوم، بين بساطة المجتمع التي كان بها أسعد، وبين تكاليفٍ أرهقت الناس، وبهرجة صرفتهم عن رؤية الجميل من حياتهم، تلك البساطة من المستحيل أن تعود، لكن يمكننا أن نهذّب أنفسنا على أن نكون بسطاء أكثر. أعرف فناناً كبيراً كلما علت نفسه وطغت، ركب باصاً من باصات جدة المهلهلة، وقصد بيوت البسطاء وأماكن الضعفاء، فخالطهم بُغية تهذيب نفسه، وتشذيب كِبره. الداعية استشهد ببيتٍ شعر شعبي لطيف: من عبّر الدنيا بعبرن تعبّر ومن رقّعه كثرت عليه (المفاتيق)