للغة وطن وإنْ حملت مزايا أخرى تجعلها تخرج عن نطاق حدودها ليستعملها آخرون.. ولغتنا العربية لغة القرآن والبيان المتميزة بمصادر ثرائها وعمق تاريخها، ما أوصلها حدَّ التفرُّد بين كل اللغات التاريخية لم يتأتى لها ذلك لولا ارتباطها الوثيق العميق بالقرآن الكريم.. قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} دلائل عميقة على سر قوة اللغة العربية وتميزها عن أي لغة من لغات الكون، رغم تعرُّضها على مدار تاريخ البشرية لمحاولات الغزو والاستلاب والتشويه والتهميش، لكن الجذور ظلت راسخة متينة لم تتمكن منها الرياح العاتية ومن حق شاعر النيل أن يفخر ويحترم لغة الضاد التي أبت أن تستسلم وصمدت أمام من ناصبوها العداء لتختال غروراً فينطق الشاعر باسمها: أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءلوا الغواصَ عن صدفاتي ولأنّ للغة وطناً فإن شبه الجزيرة العربية هي موطن اللغة العربية.. ولأنّ المواطنة هي الانتماء للوطن، فالوطنية تدفع المواطن إلى التمسك بثقافة وطنه التي عمادها اللغة العربية.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه إلى أي حد يتوافر عنصر المواطنة اللغوية لدى المواطن العربي، في ظل ظروف عصفت بالأمة وأحدثت شرخاً ثقافياً عميقاً، تمظهر في التوتر القائم بين الجذور الثقافية العربية والثقافة الغربية التي اتجه إليها شبابنا وأبناؤنا، في ظل ما تشهده البشرية اليوم من ظاهرة العولمة والانفتاح الذي يسعى لتوحدٍ فكري ثقافيٍ واجتماعيٍ اقتصادي وسياسيٍ، يحمل بين طياته تحدياً ثقافياً لهوية الإنسان العربي ولغته وثقافته.. ثم هل بالإمكان أن تزاحم اللغة العربية الثورة التكنولوجية التي أضحت تهيمن على العالم.. وما مدى قدرة اللغة العربية في كسب الرهانات والتحديات التي تفرضها العولمة علينا دون أن نفقد هويتنا ولغتنا. ولأننا نعيش منعطفاً تاريخياً مختلفاً وصعباً.. أجد أنّ الإجابة على الأسئلة السابقة تحتاج إلى التمعن بدقة على كل ما يحيط بمنطقتنا العربية في الزمن الراهن.. فاللغة العربية التي طبعت شخصية الإنسان العربي فيما قبل الإسلام وبعده بطوابع خاصة وبقيت فيه تظهر في حديثه وكتاباته شعراً ونثراً، وخلقت الحميمية بينه وبين بيئته.. وتجلّت في تاريخ الحضارات والفتوحات الإسلامية، وأظهرت مدى قوّتها وتفاعلها في خارطة الشرق والغرب، أصابها ما أصابها في زمنِ العولمة وتَحولِ المجتمعات، وما رافق هذا التحول من أزمات أصابت جسد الأمة العربية فكرياً وثقافياً واجتماعياً..ولابد من الاعتراف أنه وبعد توقف الامتداد العربي توقف الزحف الحضاري العربي، فتوقف نمو وانتشار اللغة العربية إلى درجة الجمود.. ففي القرون التي أحكم الاستعمار قبضته على الخريطة العربية، بذل هذا الاستعمار جهوداً مضنية لإحلال لغته بديلاً عن اللغة العربية.. واستمر الحال عقوداً متوالية حتى هذا العصر عصر العولمة والتقنية، ليبدأ الحديث داخل البيت العربي عن ضعف لغة الضاد عند أجيال هذا العصر.. ويتحدث المجتمع عن اختلال في تعليم اللغة العربية لأبنائنا الطلاب، أضف إلى ذلك عدم تمكن كثير من مدرسي الاختصاصات الأخرى من إجادة اللغة العربية كتابة وتحدثاً.. غيض من فيض تخجل لغتنا العربية من إزاحة الستار عن ما أصابها من أبناء جلدتها. وفي خضم الحديث عن ضعف لغة الضاد على ألسنة أهل الضاد وفي أرض الضاد، وفي ظل الانتشار الرهيب لكثير من الكلمات الأجنبية التي وجدت أرضاً خصبة لها في أرض العرب على حساب اللغة العربية، ومنها ما نراه على واجهات المحلات التجارية ووسائل الإعلام وشيوع الكثير من المظاهر الغربية في الملابس والسلع الاستهلاكية وغيرها، نتساءل بألم وحسرة .. ترى هل لدينا مواطنة لغوية؟