إن أسوأ ما عشته في فترة المراهقة، أنني وبقية زميلاتي في المدرسة، لم نكن نحمل أي قضية على عاتقنا، لم يكن لنا دور حقيقي سوى أن نكون مجتهدات في المدرسة، طائعات لوالدينا، أن لا نأتي بأي شيء مخل يمكن لهُ أن يزعج أسرنا. كان هذا الدور مملا، لم يكن هناك ناد نلتقي به، فلم يكن لدينا الحق في الخروج متى نشاء، كانت أفكارنا ضبابية، وبعيدة أحيانا عن الواقع، كنا نعيش على كم من الأمل في أن نكون مختلفات، ولكن كيف يمكن أن يكون الاختلاف؟ كيف لنا أن نظهر اهتماماتنا بعيدا عن كتب المدرسة، والكتب التي نأتي بها من القاهرة وبيروت ونتلذذ بقراءتها، وقد كانت تعتبر بالنسبة لنا كنزا باهظ الثمن. كنا نشبع نهمنا تجاه الحياة التي نعيشها بالقراءة، والبحث الدائم عن وجود شيء ما يشغلنا، عن حلمنا بوجود حزب للبيئة، أو شيء من هذا القبيل، لم يكن هناك ما يمكنه أن يحركنا خارج إطارنا، الذي تهيأ لنا أنه استهلكنا بشكل كبير، استهلك أرواحنا أكثر من أي شيء آخر. الآن حينما كبرنا وجدنا جميعا أن القضية هي ذاتنا، هي نحن، هي المكان الذي نعيش به، ليس من الضرورة أن نكون داخل حزب حتى نعمل بإصرار، ليس من الضرورة أن يخرج صوتنا من داخل فريق الجماعة. كان يمكن لصوتنا أن يكون ظاهرا وبارزا، حينما نتقن الحوار مع أنفسنا وأبنائنا، جميعنا نتملك قضايا، جميعنا نمتلك ذلك الخوف الساحر تجاه الوطن، جميعنا نحمل تلك الأمنيات أن يكون كل شيء في حياتنا وحياة الآخرين قابلا للتغير والتمدن والوصول إلى الأفضل، الإيمان بقدراتنا هو أجمل ما يمكن لنا أن نقدمه أولا لأنفسنا وأن نمرره لمحيطنا الذي نعيش به، ولكن.. مهلا: هل من الضروري أن تكون قضيتنا التي تؤرقنا حتى لو كانت حقا لنا، أن تخرج من إطار الأسرة والقبيلة لتصل إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى خارج حدود الوطن؟ هل يستحق هذا الوطن أن تخرج أصواتنا خارجه؟ هذا ما توقفت أمامه أثناء استضافتني في برنامج تابع لإذاعة "مونت كارلو"، لا أعرف لماذا شعرت بالأسى والحزن، والسيدة الكريمة تقول للمذيعة: "إننا بتنا نخجل من العالم الخارجي، وهو يسألنا متى ستقدن السيارة؟ وإلى متى هذا المنع"؟ لقد أصخت السمع لكلماتها، وحاولت أن أعود إلى مرتع ذاتي الحقيقية، حاولت أكثر أن أبدو ثابتة أمام ما ستطرحه المذيعة من أسئلة، ماذا كانت تعني السيدة وهي تقول إنها تخجل من العالم لأن المرأة لا تقود؟ ماذا يعني حينما يسأل العالم عن هذه القضية؟ ما دخل العالم بوطني؟ ولماذا على العالم أن يعرف ما نواجهه من مشاكل؟ لن أتوقف عند مفهوم القيادة، لأن مثل هذا الموضوع بات سخيفا في الطرح، لكنني أتوقف عندما تخرج أصواتنا خارج حدود أوطاننا، حينما يحاول البعض أن يظهر وطنه عاجزا عن إيجاد الحلول، وعليه أن يلجأ إلى الخارج كي يُسمع صوته، أي سخف يمكن أن يعيشه المثقف حينما يقوم بدور الضعيف و"الغلبان"، وهو يطلب المساعدة في حل قضايا وطنه؟ هنا لا تكمن الوطنية فقط، لا، شيء أكبر من هذا، هنا تكمن القضية الأعظم وهي ما كنت أبحث عنه في مراهقتي أنا وزميلاتي، أن يكون لنا دور وصوت مختلف، لكن لا أن يخرج هذا الصوت من خارج رحم المجتمع. من الجيد أن تحمل قضية كبيرة أو حتى صغيرة، لكن من المدهش أن تكون قضيتك التي تحارب من أجلها، بيدك أنت لا بيد آخرين، أن تكون صاحب قضية وصوتك يدعو في الداخل، لا أن يعوي في الخارج. إن أسوأ ما يمكن لك أن تواجهه أثناء تنقلك في الخارج، حينما يأتي شخص ما يتعرف عليك وأنت تجلس بجانبه في المقهى، ويسألك عن وطنك، وحينما تقول لهُ من السعودية، يجيبك: "أها سمعت أنه لا يسمح لكن بالقيادة وأن عليكن أن ترتدين لباسا أسود اللون، أهذا صحيح"؟ ماذا تتوقع أن تكون عليه ردة فعلك، ماذا ستفعل وأنت تشعر بأن البعض لا يسرب عن وطنك سوى ما يود للآخرين سماعه، وهذا ما حدث لي حينما كنت في لندن، وكل ما فعلته أن سألته عن وطنه فقال: أنا من طاجكستان؟ فأجبته: لكل وطن خصوصية ولكل شعب عادات وتقاليد وأنظمة وعدد من المذاهب، مثلما ستغضب مني لو تدخلت في سياسة وطنك، فأنا أرفض أن تتدخل في قضايا وطني، إننا لم نأت هنا لنطلب منك أن تحررنا، أو نطلب من هذا الشعب أن ينقذنا، لذا، فأظن أن ما تقوله أمر خاص بنا ولا أسمح بمناقشته. أنا لا أزايد على أي مثقف كان، في مدى عشقه ومحبته الكبيرة لوطنه، ولكن متى سنتوقف عن جلد أنفسنا أمام الآخرين؟ متى يمكن للبعض أن يقتنع بأن الإصلاح يأتي من الداخل، وأن العالم غير قادر على حكم أوطان يحكمها شعبها أولا؟