الأطفال مواطنون منذ ولادتهم ولكنهم مع الوقت يتحولون إلى مواطنين فاعلين أكثر. الفاعلية أو المواطنة الصالحة تعني توفر الطفل على مجموعة من القيم الأخلاقية والمهارات الذهنية والاجتماعية تمكنه من أن يكون ليس فقط منفذا بل صانعا وحاميا لمجموعة النظم والقوانين الضرورية ليعيش الناس مع بعضهم بحرية وأمان. ما هي هذه القيم والاستعدادات التي من الضروري توفرها في تربية الأطفال ليتمكنوا من ممارسة أدوارهم الضرورية كفاعلين في مجتمعهم؟ عدد من فلاسفة الأخلاق والسياسة قدموا مقترحات كإجابة عن هذا السؤال. لا بد من التذكير أن هذا الموضوع حاسم للنظريات الديموقراطية فقط لأنها تعوّل على دور الفرد في صناعة القرار في المجتمع. في المقابل النظريات غير الديموقراطية لا يهمها توفر إمكانات معينة في المواطنين لأن أصحاب القرار هم في الأخير مجموعة محددة يمكن العناية بها دون غيرها. جون رولز أحد فلاسفة الديموقراطية المعاصرين صمم نظرية للعدالة جعل في جوهرها قدرة الأفراد الأخلاقية على التفكير في القضايا العامة. الأفراد عنده أمام "مهمة الحكم" في القضايا العامة. هذه المهمة تتطلب قدرات نفسية وذهنية ضرورية للقيام بالتالي: أولا: الالتزام بالأحكام العامة حين نعتقد أنها أحكام عادلة. أي الالتزام الأخلاقي بتنفيذ ما نراه عادلا وأن ندعم المؤسسات العادلة. ثانيا: الثقة بالآخرين الذين يقومون بأدوارهم المحددة باتفاقات عادلة. ثالثا: أن الثقة الناتجة عن التعاون العادلة مع مرور الوقت ترتفع بين الناس لتوفر جوا عاما داعما للتعاون الاجتماعي. رابعا: إدراك التنوع والتعدد في المجتمع واحترام مهمة الحكم. هذه المواقف تحتاج إلى تربية وتجربة تجعلها ممكنة مع الوقت. بحسب رولز أيضا وبناء على نظرية جان بياجيه في نمو الأطفال فإن التربية المبكرة ممكن أن تساعد على الوصول إلى المواقف الأربعة السابقة. هذه التربية تمر بثلاث مراحل هي كالتالي. المرحلة الأولى هي ما يسميه رولز أخلاق السلطة. في هذه المرحلة يتعلم الطفل من خلال التعامل مع والديه أن السلطة يمكن أن تكون عادلة وأخلاقية وفي صالحه. بمعنى أن الطفل الذي يعيش بين والدين صالحين يعلم أمرين مهمين: الأول أن للوالدين سلطة عليه والثاني أن هذه السلطة مشروعة وفي صالحه وتترافق مع الحب والحنان. هذه التجربة توفر الموقف التالي: السلطة العادلة ممكنة. هذه القيمة تتعارض مع اليأس الكامل في أي نظام عادل أو مع أفكار الفوضى والأنانية المتوحشة. المرحلة الثانية هي ما يسميها رولز بأخلاق الاجتماع. في هذه المرحلة تدخل الطفلة في عدد من النشاطات الجماعية مع أطفال آخرين وتتعلم عددا من القيم المهمة داخل هذه النشاطات. تتعلم فكرة التعاون وتبادل الأدوار مع الآخرين. بدون هذه الفكرة لا يمكن استمرار اللعب والصداقة. تتعلم مراعات مشاعر الآخرين ورؤيتهم للأمور. هذا ضروري للحفاظ على علاقاتها الاجتماعية مع الآخرين. كذلك تتعلم أن هناك توقعات ترجوها الجماعة منها مثل الوفاء بالعهد والصدق. الإخلال بتلك التوقعات يؤدي إلى الشعور بالخجل. في هذه المرحلة تتعلم الطفلة أن هناك حقوقا وواجبات لها وللآخرين وأن العلاقات الاجتماعية لا تستمر بدونها. المرحلة الثالثة هي ما يسميها رولز بمرحلة أخلاق المبدأ. وهي المرحلة التي يصل فيها الطفل إلى تعميم مبادئ العدالة نتيجة للتجارب التي مر بها. بمعنى أنه تعلّم من تجاربه السابقة أن احترام الناس حق ضروري للنشاطات التي كان جزءا منها. الآن هو في مرحلة أن يستوعب أن احترام الناس مبدأ عام يجب تعميمه ليشمل كل الناس وكل النشاطات. هذه القدرة تجعل الطفل قادرا على فهم واحترام ونقد المبادئ التي تتأسس عليها المؤسسات الاجتماعية. هذه المرحلة ترفع الطفل من مستوى الأنانية والنفاق إلى مستوى يستطيع فيه التفكير في الآخرين كما يفكّر في نفسه. هذه المراحل الثلاث يفترض أن تهيئ الطفل لكي يصبح قادرا في المستقبل على المشاركة الفاعلة اجتماعيا بشكل يحفظ ويدعم نظرية سياسية للعدالة تقوم على إعطاء حقوق أساسية للجميع، فرص متكافئة وانحياز للأضعف والأقل نفعا في المجتمع للدفع باتجاه المساواة. الإطلالة السريعة السابقة على مراحل النمو الأخلاقي عند بياجيه وأثرها على النمو السياسي عند رولز تعطينا فكرة عن أهمية الطفولة ليس فقط كمرحلة في حياة الأفراد بل كمرحلة جوهرية في تأسيس حياة اجتماعية مستقرة وعادلة في أي مجتمع. هذه الأطروحة لا تعني استخدام الأطفال لتحقيق أغراض سياسية معينة بل تعني إدراك أن الأطفال أفراد يعيشون مع أفراد آخرين وأنه من الضروري لهم أن تكون شروط وظروف تلك الاجتماعات عادلة للجميع. بمعنى أنها توفر للجميع أكبر قدر من الحرية والمساواة لعيش حياتهم كما يريدون دون أن يؤدي ذلك لإعاقة آخرين من عيش حياتهم كما يريدون. تربية بهذه المواصفات تصبح حقا من حقوق الأطفال. الأسرة التي لا تقدم إلا نموذج السلطة الغاشمة والمدرسة التي لا تقدم إلا نموذج الجماعة المستبدة والمجتمع الذي لا يقدم سوى مواقف بلا مبادئ تدمر حياة الأطفال وتجعل مستقبلهم جميعا في خطر. بمعنى آخر أنها تجعل الصراع بدلا من التعاون طبيعة للحياة في المجتمع. أخلاق الصراع أخلاق أنانية ومؤذية للذات وللآخرين. في المقابل أخلاق التعاون أكثر أمانا ورحمة وأملا. لا بد من إدراك أن أخلاق التعاون لا تتحقق إلا بموقف جماعي، فالتعاون لا معنى له بدون إقرار جميع أطرافه. طرف واحد لا يحقق التعاون ولذا فإن تربية كل طفل هي عملية تعني الجميع. أخلاق الصراع تقدم كل أسرة على أنها جزيرة معزولة غير مرتبطة بالآخرين وهذا ضار بالجميع. الطفل المحروم من النمو الأخلاقي الطبيعي سيؤذي نفسه ويؤذي الآخرين ولذا فإن موضوع تربيته شأن عام كما هو شأن خاص.