أكد الدكتور فيصل بن علي الطميحي (الباحث الأكاديمي في جامعة جازان) أن البئر الأثرية التي تم اكتشافها مؤخرًا في بلدة المحرق بجزر فرسان تعود حسب تقديرنا إلى عصر ما قبل الإسلام، وتحديدًا إلى مدنية «حضارة» جنوب الجزيرة العربية، وقد يقول قائل وماذا في ذلك، فشواهد أثرية عدة تعود إلى تلك المدنية، فنقول نعم، ولكن هذه البئر الأثرية تتمتع بأهمية بالغة جدًا في تأصيل عنصر معماري فريد اختلف في تأصيله بين علماء الآثار الإسلامية المبكرة وخصوصًا العمارة الدينية، وهذا الدليل الأثري المتمثل في هذه البئر سينقض تمامًا النظرية التي تزعم باطلا أن ذلك العنصر المعماري ما هو إلا لحضارات غير عربية سابقة للإسلام. وأضاف الدكتور الطميحي: صاحب تلك النظرية هو المستشرق الإنجليزي كريزول المتخصص في العمارة الإسلامية المبكرة وهو من المتحاملين جدًا على المعماري العربي المسلم وقد وصفه بأنه ليس صاحب ابتكار معماري وتحديدًا في العصر المبكر وأنه استفاد من العمائر القائمة من عصور ما قبل الإسلام وفي البلدان التي انتشر فيها الإسلام واستفاد من العناصر الموجودة في تلك العمائر ووظفها في منشآته التي أقامها، ولعلنا نضرب مثالا على ذلك وهو أن كريزول جرّد مسجد قبة الصخرة تمامًا من أي عنصر معماري من ابتكار عربي ورأى أن معظم العناصر المعمارية المستخدمة في القبة ليست عربية وأما الباقي من تلك العناصر بحسب رأيه وإمعانًا في باطله فلم يقل أنها عربية بل قال: إنها مختلف في أصولها. وبعد ما سبق سنورد الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها هذه البئر الأثرية في جزيرة فرسان بمنطقة جازان والعنصر المعماري الفريد الموجود بها والذي يؤكد أصالته العربية والذي سينسف نظرية كريزول من قواعدها حول تأصيله لذلك العنصر المعماري وأنه ليس عربي، والمؤسف أن هناك من بني جلدتنا من المتخصصين في العمارة الإسلامية من شايع كريزول في نظريته المتجنية، فالعنصر المعماري الذي نقصده والموجود في بئر فرسان الأثرية يُعرف لدى المتخصصين في العمارة بأكثر من اسم، كالحطَّات الركنية أو المثلث نصف الكروي أو ما عرف فيما بعد باسم المقرنصات، وهذا العنصر المعماري استخدم في العمارة الإسلامية منذ فترة مبكرة ثم شاع استخدامه في العمارة الإسلامية وكان يُستخدم وظيفيًا في تهيئة أسقف العمائر لتغطيتها بالقباب وتحديدًا العمائر الدينية، وكريزول ومن شايعه يرون أن هذا العنصر المعماري هو ابتكار غير عربي ويعود لحضارة سابقة للإسلام فقد أُستخدم -حسب زعمهم- في الحضارتين البيزنطية والفارسية وأخذه العرب عند نشرهم الإسلام من العمائر البيزنطية واستخدموه في عمائرهم في الشام ومن العمائر الفارسية واستخدموه في عمائرهم في العراق، وقد عارضهم في ذلك الدكتور المهندس فريد شافعي الذي حاول كثيرًا الرد على كريزول ومحاولة تأصيل ذلك العنصر المعماري وتأكيد عروبيته إلا أن صوته للأسف الشديد لم يكن مسموعًا بحكم غياب الدليل الأثري لديه، وأنظروا إلى نظرية كريزول التي تتحدث عن هذا العنصر المعماري واستخدامه في الأجزاء العليا من العمائر بقصد بناء وتغطية الأسقف بالقباب، في حين أننا نلاحظ أن الشاهد الأثري في جزيرة فرسان الذي اُستخدم فيه هذا العنصر المعماري ليس بارزًا على سطح الارض وإنما في بئر وهي منشأة بطبيعة الحال متجهة رأسيًا إلى الأسفل وليس إلى الأعلى وجرى من خلال استخدام ذلك العنصر المعماري تحويل وتحوير فوهة البئر وجزء من عمقها الملاصق للفوهة من شكل مربع إلى شكل دائري من خلال استخدام ذلك العنصر المعماري في أركان المربع وقد تم تنفيذ ذلك العنصر عن طريق النقر وهي الطريقة التي اُستخدمت بشكل عام في حفر البئر الصخرية ولم يكن المعماري الذي قام بعمل البئر على ذلك النحو الجميل إلا ولديه أدلة لذلك العنصر في مبانٍ كانت آنذاك قائمة وبارزة ومنها استقى عنصره المعماري الفريد، ومن المعروف أن الأجزاء العليا من العمائر معرّضة أكثر من غيرها للسقوط لأسباب عدة وبسبب ذلك تضيع عناصر معمارية كثيرة، وقد أراد الله لهذه البئر الأثرية في فرسان أن يحفظ ذلك العنصر المعماري من الزوال وليؤصل عروبيته، فالبئر قديمة جدًا ويعود حسب تقديرنا القوي إلى عصر ما قبل الإسلام أو حسب ما ذكرنا عصر مدنية «حضارة» جنوب الجزيرة العربية، غير أن الأمر المهم في بئر فرسان الأثرية انه يبيّن أن هذا العنصر المعماري هو عنصر عربي خالص ويقض النظرية القائلة بعدم عروبيته، ولعلي لا أبالغ إن قلت إنه ابتكار فرساني جازاني، وهذه البئر الأثرية تعد الوحيدة على مستوى جزيرة العرب وربما الوحيدة على مستوى العالم فلم أقف على مثيل لها، ومن الضروري توثيقها ودراستها والتحقق من نتائجها وتعميمها على سائر الجامعات ومراكز البحث المعنية بدراسة العمارة الإسلامية والعربية. واشار الدكتور الطميحي إلى أن هذه البئر الأثرية مسجلة منذ سنين عدة في وكالة الآثار (هيئة السياحة والآثار حاليًا) لكنه لم يُدرس أبدًا، وما هو موجود عبارة عن تقرير وصفي ليس إلا، غير أني دائمًا ما اتحدث عنه في كثير من محاضراتي أو لقاءاتي الإعلامية من أجل إبرازه قدر المستطاع والتعريف به، فهذا الشاهد الأثري وما يمثله من قيمة وطنية أثرية وتاريخية ومعمارية يستحق في رأيي وبكل جدارة واستحقاق أن يُدرج ضمن لائحة التراث العالمي. المزيد من الصور :