لم تكن الغارات الإسرائيلية على مخازن أسلحة، في الأسبوع الفائت، الأولى من نوعها، فقد سبقتها ستّ غارات من هذا النوع منذ بدء الثورة، ما يعني أن ثمة أمراً واقعاً قد تكرّس، يستطيع الطيران الإسرائيلي بموجبه استباحة الأجواء السورية على نحو ما يفعل في الأجواء اللبنانية. يُذكر أيضاً أن الغارات الإسرائيلية على مواقع سورية سبقت الثورة بسنوات، وفي 2006 حلق الطيران فوق القصر الرئاسي في مدينة اللاذقية أثناء تواجد بشار الأسد فيه، أي أن الغارات لا تُعدّ استقواءً على النظام في ضعفه الحالي، بل أتى التحليق على القصر الرئاسي بينما كان صاحبه يزهو بإفلاته من العدالة في قضية اغتيال الحريري، ولم تردعه تلك الإهانة الصارخة عن وصف قادة عرب آخرين بأنصاف الرجال، في خطاب له بعد انتهاء حرب تموز. وبما أن خطاب الممانعة انكشف زيفه وسفاهته، ولم يعد يستحق التفنيد، فالأجدى النظــــر في سياق الغارات الحالية وارتباطها بتكريس الوقائع على الأرض. فمنذ حرب تموز 2006 سارت القيادات الإسرائيلية، ومن خلفها القوى الكبرى في المـــجتمع الدولي، على نحو يُبعد الخطر عـــن شمال إسرائيل، ولم تعد تُستثنى طرق الإمـــدادات من الضربات الاستباقية، أما حق الرد الذي كان يلوّح به النظام إثر كل غـــارة فمــحـــض إنشاء ممانع، لأن جبهة الجنوب اللبناني التي كانت تتكفل بالرد أُقفلت بموافقـــة حلــــف الممانعة نفسه علـــى القرار 1701 الذي نص على سحب قوة حزب الله الضاربة إلى شمال الليطاني. ما يتلطى خلفه خطاب الممانعة الحالي هو أن إسرائيل تستغل انشغال الحلف بالحرب في سورية لتكيل الضربات، في رهان على ضعف ذاكرة الناس عموماً، لكن من جانب آخر لحصر الغارات في إطارها السوري، بحيث يبدو النظام السوري كأنه وحده من يتلقى الضربة والإهانة، وعلى هذا الصعيد لا بأس في ضمها إلى الإهانات التي يتلقاها من هنا ومن هناك، وأحياناً من الحلفاء قبل الأعداء. وضع الاعتداءات في إطارها يستلزم خطاباً من نوع آخر، ويستلزم الجرأة لأن الغارات الإسرائيلية تفنّد المزاعم التي ساقها حزب الله تبريراً لتدخله في سورية. وإذا كان الحزب قد بدّل مبررات تدخله حسب الحاجة، فإن المبرر الثابت والأقوى بقي حماية النظام السوري، بوصفه ظهيراً للإمدادات القادمة من إيران. الإقرار بأن الغارات الإسرائيلية المتتالية تقطع خط الإمدادات يعني ضعف الحجة التي يسوقها الحزب، أو يقتضي منه رداً مباشراً على الاعتداءات. يزعم الحزب أنه يحارب التكفيريين عملاء الغرب وإسرائيل، ويزعم النظام أن الغارات الإسرائيلية أتت بعد تحقيق قواته انتصارات كبيرة على المعارضة العميلة. يقتضي المنطق هنا محاربة الأصيل بعد فشل الوكلاء، خاصة عندما يتقدم الأصيل "الإسرائيلي" إلى الساحة، أو على الأقل خوض معركة متكاملة ضد الأصيل وأعوانه. ذلك يوجب الاعتراف بأن الحلف الممتد من طهران إلى جنوب لبنان صار مخترقاً، وأنه يتعرض لخطر حقيقي، بخلاف المزاعم الإعلامية عن الانتصارات التي يحققها، وبناء عليه يتوجب الإقرار بأن قواعد اللعبة تغيرت تماماً منذ حرب تموز، في شقيها اللبناني والفلسطيني. لا يفيد هنا التحدث عن تغير في قواعد الاشتباك، لأنه ينتمي إلى اللغو الممانع نفسه، فالتغير أصاب فقط قدرة حلف الممانعة على الوصول بشكل مجدٍ إلى أهداف إسرائيلية، وأيضاً القدرة على تلقي الإمدادات المرسلة إلى الجنوب أو إلى غزة، في الوقت الذي لم تفقد فيه إسرائيل قوتها الهجومية وقدرتها على شن غارات استباقية في عمليات تدل على قوتها الاستخباراتية مع قوة سلاحها الجوي. لا يفيد هنا أيضاً الحديث عن أزمات داخلية تعيش فيها القيادات الإسرائيلية، وتدفعها إلى افتعال الحروب، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أبقت على الإستراتيجية ذاتها في ما يخص دفع الخطر بعيداً عن الحدود البرية، مع الاحتفاظ بقوة رادعة كبيرة من خلال سلاح الجو. يجوز الاعتقاد أن هذه الاستراتيجية بدأت مع الانسحاب من جنوب لبنان، الأمر الذي أغضب حلف الممانعة، واعتبره النظام السوري حينها بمثابة مؤامرة عليه. أيضاً، يجوز الاعتقاد أن مكانة النظام قد تأذت عموماً لمصلحة وظيفته المحدودة كمعبر لإمدادات الحزب، في الوقت الذي راح فيه الأخير يباشر مهمته اللبنانية بالأصالة بعد انكفائه إلى شمال الليطاني. أي أننا كنا إزاء تبادل في الأدوار لم يظهر إلى العلن إلا مع بدء الثورة السورية، تبادل بانت فيه الأفضلية لحزب الله على النظام ضمن الإستراتيجية الإيرانية. وإذا كان النظام قد حاول سابقاً تعويض مكانته الإقليمية المنهارة، من خلال الانفتاح على الغرب والعلاقة الوطيدة مع الجار التركي، إلا أن الثورة وعدم قدرته على قمعها أعاداه إلى حجمه الفعلي الذي تضاءل منذ انسحاب قواته من لبنان. وأن يتحدث إعلام الممانعة عن بقاء الضربات الإسرائيلية "ضمن قواعد اللعبة"، لأنها لا تنال من البنى العسكرية للنظام، فلهذا معنى محدد هو عدم تأثير الضربات على مجريات الحرب في سورية، الأمر الذي يعكس رضوخاً لمتطلبات أمن إسرائيل ما دام منسجماً مع أمن النظام وبقائه. ليس سراً على هذا الصعيد أن إسرائيل لا ترى مصلحة لها في إسقاط نظام الأسد، لا لأنها تتخوف من البديل وإنما لأن بقاءه على هذا النحو من الضعف مصلحةً إسرائيلية، بعد أدائه لدوره في ضبط الجبهتين السورية واللبنانية طوال عقود، ولا يدعو للاستغراب أن تتوافق مصلحتها مع مصالح الحلف الإيراني الذي لا يزال يرى بقاء نظام تابع ضعيف أفضل من خسارته كلياً. السؤال الفعلي هو: لماذا لا ترد إيران أو يرد حزب الله، بصفتهما المتضررين مباشرة، على الغارات الإسرائيلية؟ ألا يعني هذا إقراراً منهما بالقواعد الإسرائيلية للعبة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فعن أية انتصارات يتحدث الممانعون؟ من التجربة القريبة نستطيع الجزم بأن هزيمة كبيرة قد تلقوها، هزيمة تعادل أو تفوق الضجيج عن الانتصار في سورية. يبقى أن يعي هؤلاء أن إسرائيل لا تتحرش، وفق وصفهم، بل تنفذ ما تريده بالضبط، وأنهم في الجانب الآخر لم يعودوا يمانعون.