أهم مقومات الأمة هو تاريخها وعطاؤها الفكري وتراثها العمراني والأثاري والفني، ونظراً لما تتعرض له هذه المقومات في بلادنا العربية من أخطار خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو ما لم يحدث له مثيل منذ هجمة هولاكو وجيشه على بغداد سنة 656هـ حينما دمروا المعالم الحضارية للمدينة وأحرق وأغرق تراثها الفكري وعبث به جهلة جنوده المتوحشة. لم يخطر على بال أكثر الناس تشاؤماً أن يظهر من بيننا - أي نحن أبناء هذه الأمة - وفي أواخر القرن العشرين ومطلع الألفية الثانية من يفوق هولاكو وجنوده وحشية في تدمير معالم حضارتنا ومصادر تاريخنا وآثارنا ومتاحفنا بالشكل الذي نشهده الآن، وما نراه بالعين المجردة من خلال ما تبثه وسائل الإعلام المختلفة. من أجل هذا أردت أن تكون مشاركتي في معرض بيروت العربي للكتاب ومن خلال هذه الندوة التي يسعدني أن أشارك فيها زميلة وزميلاً ومقدماً، وهم من ثلاثة بلدان مختلفة السعودية ولبنان واليمن، وفي بيروت عاصمة الكتاب والثقافة والفكر العربي دون منازع. أردت أن تكون مشاركتي الحديث عن هذا التاريخ والتراث العربي الذي يدمر بشكل يكاد أن يكون كاملاً وممنهجاً ويومياً وأمام أعيننا ونحن عاجزون وغير قادرين على عمل أي شيء لإنقاذ هذا التراث العربي الذي تشارك كل أيدي البطش والجهل والأعداء في تدميره. ربما كان منظمو هذه الندوة يتوقعون أن يكون حديثي عن شيء ذي صلة بالكتاب، أو ربما بعض الجوانب الفكرية أو التاريخية بحكم تخصصي في التاريخ العربي الحديث، أو عن النشر ومشكلاته في الوطن العربي كوني على رأس دار للنشر وهي دار بلاد العرب للنشر ومقرها الرياض، لكن بحكم تخصصي في التاريخ العربي الحديث واهتمامي بوحدة التاريخ العربي، وحرصي الشديد لدرجة المعاناة وعلى مدى ما يقارب أربعة عقود من عمري، وأنا أدعو وأصرخ بصوت مرتفع، وأكتب بشكل متواصل موجها خطابي إلى الحكومات والمؤسسات العربية بضرورة الحفاظ على مصادر تاريخنا العربي المتمثلة في آثاره ووثائقه ومخطوطاته ومظاهره العمرانية التي كانت تتعرض للإهمال، مما عرض الكثير منها إلى الضياع والاندثار بسبب جهل الحكومات العربية بأهمية هذه المقومات، مما جعل الباحث العربي يعيش متسولاً للبحث عن مصادر تاريخ بلاده في أرشيفات ومكتبات ومتاحف الدول الأوروبية. ولكي لا أطيل عليكم فسأوجز وباختصار مراحل وبدايات تعرض مصادر تاريخنا وتراثنا للإهمال، ثم الوصول به إلى التدمير الذي نشهده اليوم في معظم البلدان العربية. القصة تبدأ مع قيام الحرب العالمية الأولى وانتهاء بحقبة الحكم العثماني للبلاد العربية، وانتقال الحكم في معظم هذه البلدان إلى هيمنة وسيطرة الدولتين المنتصرتين في الحرب بريطانيا وفرنسا. أثناء هذه الفترة الانتقالية تعرضت وثائق أربعة قرون من الحكم العثماني للبلاد العربية إلى الإهمال الكامل، مما أدَّى في النهاية إلى الضياع الكامل، لأن الحكومات الانتقالية لم تهتم بهذا الإرث الوثائقي المهم الذي يمثل الذاكرة التاريخية للأمة خلال هذه الفترة الطويلة. وأعزو سبب إهمال هذا التراث وضياعه إلى جهل تلك الحكومات الحديثة النشأة بأن تكون حكومات، وإن كانت نشأتها في ظل حكومات الانتداب التي ربما اعتبرت بداية تاريخ المنطقة الحديث يبدأ مع بداية حكمها. ومن الأسباب خلق شعور عدائي لدى البعض لكل ما هو عثماني حتى المباني والعمارة التي تعود إلى تلك الفترة أهملت ثم تداعت وأخيراً اختفت. ولكي نقرب الصورة أكثر نضرب لذلك بعض الأمثلة مثل تدمير أجزاء كبيرة من خط الحديد الحجازي الرابط بين بلاد الشام ومنطقة الحجاز. والمثال الثاني وهو يتعلق بمصير وثائق تلك الفترة خصوصاً تلك المتعلقة باليمن الذي ظل تحت الحكم العثماني إلى حين توقيع وثيقة إعلان هزيمة الدولة العثمانية على أيدي الحلفاء. حيث قام إمام اليمن الذي بدأ حكمه بانتهاء حكم الأتراك بتقطيع الوثائق العثمانية إلى أجزاء واستخدام الأجزاء البيضاء منها في مكاتباته الرسمية دونما إعارة أي اعتبار إلى أهمية وقيمة تلك الوثائق. لا أعرف أن أياً من هذه الدول التي استقلت فيما بعد قد أسست دوراً للمحفوظات لحفظ وثائق الحقب التاريخية التي تعود إلى ما قبل تأسيسها، كما لم تهتم بتأسيس أرشيفات منظمة لحفظ وثائق تلك الدول الحديثة، بل كانت تترك وثائقها في أي مكان وحيثما اتفق، بل وتمنع الباحثين عنها ومن الاطلاع عليها، مما جعل المؤرخين العرب يجدون صعوبات كثيرة في كتابة تاريخهم على أسس وأصول ومنهجية علمية سليمة. ولذلك كتب التاريخ العربي الحديث بشكل مشوه أو كتبه أشخاص أصحاب هوى أو بشكل بدائي. أما المؤرخ الجاد فكان ييمم وجّهه متجهاً إلى بلاد الغرب، خصوصاً بريطانيا وفرنسا، حيث يوجد في دور محفوظاتها (أرشيفاتها) الكم الهائل من الوثائق التي تعود إلى فترة حكمهم لهذه البلدان. وبكل أسف يكتب التاريخ في هذه الحالة وهو يحمل وجهة نظر واحدة هي نظرة المستعمر إلى الطريقة التي حكم بها تلك البلدان. وفيما يتعلق بوثائق فترة الحكم العثماني للبلاد العربية فيذهب الباحثون إلى أرشيف الدولة العثمانية في استانبول، وأنا أحدهم على مدى سنوات طويلة. الآثار والمخطوطات لم يهتم العرب بآثار بلادهم بل تركوا هذا للمنقبين والآثاريين الغربيين الذين تمكنوا من استخراج كنوز عظيمة من آثار بلادنا، معظمه تم نقله إلى متاحفهم في لندن وباريس وبرلين وشيكاغو وغيرها من العواصم والبلدان. كانت هناك محاولة هي الأولى التي قامت بها حكومة الانتداب البريطاني في العراق، حينما قامت المستشرقة والسياسية مسز بل بتأسيس أول متحف عراقي في بغداد، وضم منذ تأسيسه في أواخر العشرينيات الميلادية بعض مما تم اكتشافه من آثار العراق، وظل ينمو ويزداد أهمية إلى حين الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003م. حينما كان المتحف العراقي من أولى المؤسسات المستهدفة بعد سقوط بغداد للنهب والسلب، بل ومحاولة إحراقه وتخريبه بالكامل على أيدي مجهولين وعصابات منظمة مستهدفة وبشكل منظم تدمير التراث والتاريخ العربي ونهبه والمتاجرة بقطعه الأثرية الثمينة. وإضافة إلى ما نهب من محتويات المتحف العراقي منذ تعرضت المواقع الأثرية العراقية إلى القصف الجوي من قبل طائرات الغزو الأمريكي، حينما استخدمت مواقع الآثار مراكز للمضادات الأرضية العراقية. وما لم يكتمل تدميره قامت القوى الظلامية وآخرها داعش بتدمير أهم الآثار العراقية خصوصاً في منطقة الموصل، بما فيها أقدم دور العبادة من كنائس ومساجد وأضرحة يعود بعضها إلى آلاف السنين. أما المخطوطات العربية التي تحمل بين طياتها نتاج الفكر العربي على مدى قرون طويلة، فقد تعرضت هي أيضاً للإهمال وعدم العناية بحفظها وصيانتها وترميمها، وتكاد أن تكون حالة مشابهة في معظم الدول العربية. كم هائل من تلك المخطوطات تسرب إلى مكتبات الغرب الكبرى في باريس ولندن وبرلين وغيرها وذلك بطرائق مختلفة مشروعة وغير مشروعة، ولكن كيف ما كان الأمر فإنَّ وجودها في تلك المكتبات الأجنبية كان خيراً لها، حيث حظيت بالعناية والحفظ السليم وترميم ما كان منها متهالكاً، وقيام الكثير من المستشرقين في تلك البلدان إلى تحقيق الكثير منها ونشره، فأصبح الباحث العربي وبكل أسف عالة على ما حققه المستشرقون من تراثه، وأصبح إذا أراد الاطلاع على أصول تلك المخطوطات المحفوظة في مكتبات ومتاحف وجامعات الغرب لا يجد صعوبة في الاطلاع عليها وتصوير ما يشاء بأرخص الأسعار، وبأكثر الوسائل التقنية التي لا تضر بسلامة المخطوطة. تصور أخي العربي حال تلك المخطوطات لو ظلت في البلدان العربية كيف سيكون حالها؟ أمثلة من حالات التدمير للتراث العربي في البلدان العربية لبنان هذا البلد العربي - الذي يمثل المنارة العربية لإحياء اللغة العربية ونشر الكتاب العربي وقبلة لكل مثقف عربي - تعرض تراثه وتاريخه وآثاره وذاكرته التاريخية من وثائق وسجلات تاريخه الفني إلى الكثير من الدمار أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في عام 1975م، نسأل الله ألا يشهد لبنان لها مثيلاً مرة أخرى. كنت من المتابعين لتلك الحرب وكنت أسمع عن محاور التماس، ومنها محور المتحف. كنت أقول لنفسي ترى ما هو مصير ما كان يحتوي عليه المتحف اللبناني من كنوز لبنان التاريخية وقد تحول إلى أحد المتاريس ولفترة طويلة؟ رأيت القائمين على أرشيف لبنان الوطني - بعد انتهاء الحرب بسنوات - وهم يلملمون ما تبقى أو ما نجا من محتوياته، ويرسمون الخطط ويعلقون الآمال على ترميم ما أحدثته الحرب في وثائق ذلك الأرشيف الذي هو يعد ذاكرة لبنان التاريخية. كنت منذ مطلع الثمانينيات التقي من وقت لآخر زملاء أعزاء من لبنان من كبار المؤرخين مثل الدكتور مسعود ضاهر وجوزيف أبو نهرا ووجيه كوثراني وإسماعيل خليل وغيرهم في مؤتمرات ينظمها المؤرخ التونسي الكبير عبد الجليل التميمي، وكانت الحرب اللبنانية لم تضع أوزارها بعد كان لبنان وأوجاعه الحاضر في كل لقاءاتنا، وكان الحديث عن المخاطر التي تهدد إرث لبنان التاريخي والحضاري مدار أحاديثنا. العراق مر تاريخ العراق الحديث بمراحل عدة، أولها الاحتلال البريطاني عام 1918م، وثانيها قيام حكومة العراق الحديث تحت حكم الملك فيصل الأول عام 1921م، ثم انقلاب العسكر في عام 1958م وإطلاق مصطلح على ما قبل انقلابهم باسم العهد البائد، وبدؤوا كتابة تاريخ جديد للعراق وعملوا على تشويه تاريخ فترات ما قبلهم. ويمثل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م نقطة تحول أخرى في تاريخ العراق والعمل جارٍ على طمس كل ماله علاقة بفترة حكم صدام حسين وحزب البعث. وشهد الأرشيف العراقي ومعه المتحف والمكتبة الوطنية العراقية حالاً من الفوضى والبعثرة والنهب والتخريب. استمرت هذه الحالة تزداد سوءاً مع اندلاع الفتن المذهبية وظهور طلائع الإرهاب من داعش وغيرها، فأجهزت على ما تبقى من المظاهر التاريخية والأثرية العراقية. مصر مصر التاريخ والحضارة والآثار تعرضت لمراحل عدة في تاريخها، ولكن في العصر الحديث تعرضت للحملة الفرنسية على أيدي الجنرال نابليون عام 1798م، وكان أول ضحايا الغزو الفرنسي ما تعرض له أنف أبو الهول من قطع نتيجة لقذيفة مدفع وجهت له. ولكن الفرنسيين جلبوا معهم خبراء في علم الآثار والدراسات التاريخية، وجلبوا معهم مطبعة أعتقد أنها الأولى التي تدخل بلداً عربياً، وقاموا بدراسات شتَّى في أحوال مصر من أعظمها الموسوعة العظيمة بعنوان وصف مصر. وأسسوا أول مركز لدراسة آثار وتاريخ مصر، وهو ما تعرض للإحراق والتخريب على أيدي ما سمى ثوار 25 يناير 2011م، أو الربيع العربي، الذي جاء نكبة على التراث العربي والذين حاولوا الوصول إلى المتحف المصري بهدف حرقه وتخريبه. أليس هذا عملاً منظماً يهدف إلى العبث بكل ما له صلة بتاريخنا العربي وموروثنا الإِنساني؟ بعد الغزو الفرنسي قام محمد علي باشا وأسس أسرة حاكمة حكمت مصر منذ عام 1805م إلى أن تم القضاء عليها في عام 1952م إثر قيام الثورة المصرية. وقام حكم العسكر بمحاولة طمس تاريخ فترة حكم مصر ما قبل الثورة. كان نتاج هذه المحاولة ضياع الكثير من تاريخ وحضارة وتراث مصر، ومن ضمنها الكثير من وثائق تاريخ مصر. ذكر لي أستاذي الدكتور جلال يحيى أستاذ التاريخ الحديث أن وثائق قصر عابدين بعد الثورة استخدمها بعض جنود الحراسات للتدفئة أثناء فصل الشتاء. ولعل خير من خدم وثائق مصر المتعلقة بفترة حكم محمد علي باشا لبلاد الشام الذي انتهى في عام 1840م هو الأستاذ المؤرخ الكبير أسد رستم، حيث أخرج عدداً من المجلدات بتلك الوثائق التي إذا حاولنا العودة إلى أصولها في الأرشيف المصري قد لا نجدها. اليمن اليمن السعيد وموطن الأصل العربي بلد له تاريخه، لكنه تاريخ يشهد حركة تدميرية على يد جهلة ومتطرفين جعلوا من الآثار عدوهم الأول، فآثار سبأ تشهد حالة من العبث، وكذلك مخطوطات اليمن الكبيرة في أعدادها والمحفوظة في المساجد والأبنية القديمة، وتتعرض المدن اليمنية لما يشبه الحرب الأهلية. تستخدم في هذه الحروب كل أنواع الأسلحة التي لا توفر أثراً ولا تبقى على مخطوطة. وصنعاء العاصمة بمساجدها ومبانيها التاريخية تحولت إلى ميدان حرب يعبث فيه الجهلة بكل أنواع التدمير، وقس على ذلك ما يحدث لتاريخ مدينة صعدة ورداع وتعز وغيرها. سوريا سوريا بلد التاريخ والحضارة، وموطن أول أبجدية عرفت في التاريخ، دمشق العاصمة عاصمة الأمويين حلب الشهباء، مدينة الأسواق التاريخية والعمارة التي قل أن يكون لها نظير. ومثلها حمص وحماة ومعرة النعمان، ماذا بقي من معالم هذه المدن، وما حل بها على أيدي القوى المتصارعة من وطنيين وغرباء، من قوى ظلامية وقوى مناصرة للنظام لا تقل ظلامية. يعد كل هذا عاراً في جبين الإِنسانية والمجتمع الدولي الذي وقف متفرجاً على ما يحدث في سوريا من تدمير ممنهج لمدنها التاريخية وآثارها وحضارتها، سيكتبه التاريخ وصمة عار على عالم يدعي أنه يعيش في أزهى العصور تحضراً. ليبيا تشهد صراعاً دموياً بين قوى مختلفة ظلامية وقبلية، استهدف الظلاميون المتطرفون من أتباع القاعدة وداعش وغيرها المظاهر الحضارية في هذا البلد المنكوب من مساجد وأضرحة ومعالم أثرية، حتى وثائق مركز الجهاد الليبي لم تسلم من العبث. من الذي يعبث بتاريخ وحضارة ليبيا؟ بكل أسف هم أبناء ليبيا نفسها ومن استدعوهم من شذاذ الآفاق من الجهلة والمرتزقة، ليساعدوهم على تقويض معالم ثقافة وحضارة بلدهم. الخلاصة والتوصيات لم يشهد تراثنا العربي ومعالم تاريخ الأمة العربية ومصادر فكرها حالة من الدمار والتخريب والهدم والعبث، مثل ما شهده خلال الثلاثة العقود الماضية وبشكل مستمر، إلى هذه اللحظة التي نلتقي فيها في بيروت مدينة النور التي نالت هي نصيبها من هذا التدمير المرعب لمصادر الفكر والثقافة والحضارة العربية. ومما يمكن أن أوصي به هو الآتي: 1 - دعوه عاجلة إلى وزراء الثقافة والتراث العربي بعقد مؤتمر عاجل تحت رعاية جامعة الدول العربية لوضع خطة عربية لحماية مصادر تاريخ وتراث وآثار الأمة العربية من العبث. 2 - إنشاء صندوق عربي مشترك للإنفاق على إعادة بناء ما دمرته الحروب العربية من آثار ومعالم تاريخية في العديد من المدن العربية. 3 - وضع ميثاق عربي يحرم التعرض لأي مظهر حضاري عربي بأي أذى في أوقات الحرب والسلم. 4 - دعم المؤسسات الحكومية والأهلية المهتمة بحماية وصيانة التراث العربي. 5 - التعاون مع المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بالتراث الإِنساني من أجل المساهمة في حماية التراث العربي.